وهؤلاء لا يعنون التفويض المطلق، وإنما مقصودهم أن لا يخوضوا في تكييف المعاني المفهومة من الكلام العربي. والقرآن نزل بلسان عربي مبين. و قد سمى الله تعالى نفسه فيه بعشرات الأسماء الحسنى , وهي أسماء ونعوت , كما وصف نفسه سبحانه بعشرات الصفات , ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنزل عليه والمكلف بالبيان , وأصحابه رضي الله عنهم كانوا يعلمون بسليقتهم العربية أن معاني تلك الأسماء والصفات معلومة , وأنه يجب إثباتها لله تعالى على وجه يليق بعظمته وجلاله مع ملاحظة التنزيه عن التشبيه والتعطيل إعمالا لقوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)، وقد صح عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: (الاستواء معلوم والكيف مجهول)، وقد رويت الكلمة نفسها مع زيادة وقصة عن الإمام مالك رضي الله عنه.
وللأسف , فإن أبا البيض أعدى بهذا الجرب العقدي إخوته , ولا أعرف عن واحد منهم أنه رجع عن ذلك. ومن المستحيل إرشادهم أو نصحهم بمراجعة كتب العقيدة السلفية , سواء منها القديمة أو غيرها. وإن شئت تعكير دمهم وإثارتهم فَدُلَّهم على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية , وصدق الله العظيم: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء).
الفصل السابع
قوله بأن فرعون مات على الإيمان, ورده على من قال بخلاف ذلك, ودفعه لآيات القرآن الواردة بذلك بالصدر
هذه المسألة من أعظم فواقر أبي البيض وبوائقه, فقد انفرد بها -عياذا بالله- بالمغرب وبين أهله, ولم نسمع بها عن أحد قبله حتى الغلاة في التصوف الفلسفي , ولما وقفت على كلام ابن العربي فيها لم أستغربه لأن له من مثل هذه الطامة الكثير في كتابيه اللذين جمع فيهما الإلحاد من أطرافه:
(الفتوحات المكية، و فصوص الحكم) , كتبت إلى أبي البيض أسأله عنها , و أورد اعتراضات عليها هي في الحقيقة مني؛ إلا أني كنت أنسبها لغيري درءا لغضبه وحفاظا على الصلة بيننا , وما كنت ـ علم الله ـ أنتظر منه ذلك الجواب الطافح بالمنكر العظيم , والخطأ الجسيم , والذي تنكر فيه لآيات الذكر الحكيم , المنادية بكفر الطاغية المتربب فرعون لعنه الله وأخزاه , وكان الجواب من معتقله بمدينة آزمور بتاريخ (27 جمادى الأولى عام 74)، وهو جواب طويل تناول فيه مسائل منها إيمان فرعون , وقد أورد الأخ بدر سدده الله ما يتعلق بفرعون بنصه نقلا عن نسختي التي بخط الشيخ , وأعقبه برد غير مباشر عليه لشقيقه الشيخ عبد الله سماه: (استمداد العون لإثبات كفر فرعون)، وقد كتبه في حياة شقيقه أبي البيض لأنه مؤرخ بـ (25 صفر عام 1375) , ولا أدري هل اطلع عليه أبو البيض أم لا , والغالب أنه لم يره , لأنه كان يومئذ بالمعتقل , وشقيقه عبد الله بمصر.
وقد أحسن الأخ بدر بإيراد الجواب والرد عليه , وما تخلله من تعليقات جد مفيدة , كما أن عبد الله أجاد وأفاد أيضا في رده، وأتى على بنيان أبي البيض من القواعد.
ومن أهم ما فيه: إنكار ما ذكره الشعراني المتهور من أن القول بإيمان فرعون منقول عن جماعة من السلف والخلف منهم الباقلاني , وتبعه على ذلك أبو البيض , وزاد نقله عن بعض النكرات من متصوفة العجم , وعن الصوفي الاتحادي المحترق البرزنجي المدني , ولكنه تنكب الصواب بنفيه عن ابن العربي , وهو ثابت عنه بدون شك , وإلا فما معنى تأويل الشعراني لكلامه , وقد أحسن بدر أيضا بنقله عن الفصوص وشارحها القول بإيمان فرعون.
وقد سمعت من كل من أطلعته على رسالة أبي البيض بالحرمين الشريفين ومصر من العلماء استنكارهم الشديد لهذه البائقة الموبقة , وصارحني الأخ المحدث الداعية أبو إسحاق الحويني بمنزله بكفر الشيخ أن هذا القول يعتبر تحديا لله تعالى ورسوله , وقبل أن أورد نص الجواب دون الرد عليه لطوله مع الإحالة على (الجواب المفيد للسائل المستفيد) للوقوف عليهما.
¥