أجل، بلا خلاف بين الأمة الوسط في ذلك، فما هي تلك الوسطية وذاك الاعتدال الذي يرفع القرضاوي رايته، وقد خالف الأمة الوسط بلا خلاف؟
وبخصوص المناكحة والمصاهرة والمؤاكلة، فهذه من الأمور التي ينبغي إمعان النظر فيها اليوم، ذلك لأن النصارى واليهود في هذا الزمان حربيون وليس منهم ذمي واحد، وأن أغلبيتهم اليوم لا علاقة لهم لا بالتوراة ولا بالإنجيل، على ما فيهما من تحريف، وكل ما لدى النصارى اليوم مثلاً هو إنجيل متّى وإنجيل ماركوس وإنجيل يوحنى وإنجيل لوقا، وليس عندهم إنجيل عيسى عليه السلام، ولو كان عندهم إنجيل عيسى عليه السلام وهم مؤمنون به لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ونستحضر هنا أن من الصحابة رضي الله عنهم من كان لا يرى الزواج والمصاهرة ... إلا من حرائر وعفائف الذميين، وليس من الحربيين، هذه واحدة.
ومنهم من كان يرى أن امرأة تقول "عيسى ابن الله" هي مشركة لا تحل.
قال ابن كثير في التفسير: (وقيل المراد بذلك الذميات دون الحربيات لقوله {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ... الآية}، وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول؛ لا أعلم شركا أعظم من أن تقول إن ربها عيسى، وقد قال الله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ... الآية}).
صحيح خالفه الصحابة رضي الله عنهم، للاعتبارات التي ذكرها ابن كثير رحمه الله، وهو ما نعيبه على القرضاوي الذي يفتي في أمور كثيرة وخطيرة دون أن يشير إلى ما هنالك من أقوال للسلف، ودون ما وضعه أولئك السلف من قيود وشروط ... لذا جاءت فتاوى القرضاوي في كثير من القضايا متسيبة سقيمة.
أما أهل الكتاب الحقيقيون؛ فهم أهل الكتاب الحقيقي، الكتاب الذي أنزله الله تعالى من توراة وإنجيل، قبل التحريف.
أما بعد التحريف؛ فلم يعد أحدهما الكتاب الذي أنزله الله، ولا أتباع المحرف منهما أهل الكتاب الذين يؤمنون بالله، إلا وفق ما تعارف عليه الكفار وزعموه لأنفسهم من أنهم أهل دين وإيمان، والعبرة بما في ديننا لا بما في أفواههم، كما علمت.
* * *
ومما ينبغي أن يعلمه المسلمون؛ أن التسامح المطلوب شرعاً مع غيرهم، مقيد وليس مطلقاً، كما قلت آنفاً، والقرضاوي ذكر قول الله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، وعامة المسلمين لا يفهمون ما هي هذه التي هي أحسن، ولا ما هي طبيعة تلك المجادلة، وعلى أي أساس وبأية شروط، إلا من كان دارساً، واستغلال جهل المسلمين من طرف أصحاب راية الاعتدال المزيفة، استغلال خبيث خال من تقوى الله تعالى.
فهل ذكر القرضاوي للناس بأن ما استشهد به هنا منسوخ على حد قول التابعي الجليل قتادة وغيره، رضي الله عنهم؟ أو أنها محكمة لكن في حق طلاب الحق من أهل الكتاب؟
وهذا كما قال المفسر الكبير ابن كثير رحمه الله في تفسيره للآية: (قال قتادة وغير واحد: هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولم يبق معهم مجادلة، وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف، وقال آخرون: بل هي باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين، فيجادَل بالتي هي أحسن ليكون أنجع فيه، كما قال تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ... الآية}).
إلى قوله: (قال مجاهد: {إلا الذين ظلموا منهم}؛ يعني أهل الحرب ومن امتنع منهم من أداء الجزية) اهـ.
وهذا هو القيد في التسامح الإسلامي، فهل نتبع سلفنا الصالح، أهل العلم والعمل، أم نتبع الدكتور وصاحبه أحمد منصور؟!
ولا شك أن الفهم الصحيح للقرآن الكريم هو فهم السلف لا فهم الخلف المخالف، والذين يتجاوزون أقوال الأئمة وحفاظ الأمة ويذهبون إلى مزبلة الأفكار البشرية قوم لا يعقلون.
ثم إن القرضاوي كتم على المسلمين الاستثناء القرآني في الآية، فأوردها ناقصة في المبنى والمعنى، وهو عبث بعقيدة المسلمين لا يخدم إلا مراد الكافرين والمنافقين، والمستثنى من الجدال بالتي هي أحسن، وفق ما تم بيانه، هو قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} ولئن كان إسقاطها عن سهو، كما رجحنا، فإسقاط معناها كان عن عمد، وهذا هو الخطر على الشيخ، ونقول عن عمد، لأن كل ما بنى عليه من اجتهادات كان على هذا الخرم الفاضح للقرآن الكريم، أم نقول جاهل؟
¥