فحصِّل أوّل ما تحصّل راحلة الطريق، واسع في تطلّبها سعي الغريق.
والعمدة في هذا الفنّ وليس بالسهل الطّيِّع، ما قاله أبو عبد الله الحاكم ابن البيِّع:
"الحفظ والفهم والمعرفة لا غير"، فحصّلها قبل أن تستدرك إن كان فيك خير.
فإذا حصّلت الرّاحلة فاعرف طرائقهم، واستهدِ بهم في طريقك، وخذ منهم أصول الفنّ المطّردة، وقواعده المتّفق عليها.
وستجد بعد مدّة، أنّه صار لك نَفَسٌ في هذا العلم، وفقه نفْسٍ يعينك على الفَهم، وملَكةٌ حديثيّة، تعرف بها مقولاتهم، ولم قالوها، وسُنَنهم، وكيف استنّوها.
إذ ذاك يقال: للآخِر أن يستدرِكَ علََى الأوّل، إذا نبغ وتأهّل، وفهم كلام الأوّل ومراده، وأسلم إليه في التأصيل قياده، على أنْ لا يؤدّي استدراكه إلى محظور من محظورات علم الحديث، ولا يخالف إجماعًا استقرّ قبل غرائب هذا العصر الحديث.
ومن محظورات الحديث: أن يوجد طريقٌ صحيح لا علّة له، ولا يشتهر مع كونه في مظنّة الشهرة.
وأن يقول الحافظ المتتبّع المطّلع: لا يروى حديث كذا إلا من طريق كذا، ثمّ يستدرك عليه العصريّ بأنّه وجده في فوائد تمّام، أو في الثاني والثلاثين من حديث أسامة، ونحو ذلك.
قال: أفلا ترى أنّ عسيرًا على بني العصر أن يحفظوا مائتي ألف حديثٍ بأسانيدها، ويعرفوا الرجال وأحوالهم على تفاصيلها، وهنا يحلّ للعصريِّ كما تزعم أن يتكلّم على الإسناد؟
قلت: هذا بيت القصيد، والغاية التي ليس بعدها مزيد، وهنا زلّت أقدام وتتابع على الغلط أقوام، وليس هذا الموضع مختصًّا بعلم الحديث، بل لكلّ علمٍ منه حظّ.
وذلك أنّ رتبة الاجتهاد على الاستقلال المحض، لم يصلها أحد من الأمّة بعد الصّحابة، والدّعوة إلى التّقليد لم يقل بها ذو فطنة ونجابة، بل سار الأوّلون والآخرون على طريقةٍ وسطٍ، جفا جافٍ وغلا غالٍ فيها فغلط.
قال: أبِنْ ليْ هُديت، فقد جئت بما لم يطرق أذنيّ.
قلت: وما أخشى إلاّ نفرة الأذن من الغريب، ودعوى استحداث قول لم يقل به عريب.
لكن بين يديَّ ابنُ القيّم حاكيًا: "وما من أحد من أئمّة الدّين إلا هو مقلّد في بعض المسائل من هو أعلم منه".
وهذا أحمد إمامنا يقول "إذا سئلت عن مسألة لا أعرف فيها شيئًا أخذت فيها بقول الشافعي"
ومن تتبّع آثار السلف، ومن سار سيرتهم من الخلف – علم أنّ هذه كانت طريقتهم.
فكان بالكوفة أصحاب ابن مسعود، يتابعونه في أقواله، ويتّبعونه في غالب أحواله، ثمّ كان على ذلك أهل الكوفة.
وبالبصرة على قول أنس وابن سيرين والحسن.
وبالمدينة كان الناس على قول زيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر، وكثر تمسّكهم بفتاوى الفاروق، ثمّ أقوال فقهاء المدينة السّبعة.
وبمكّة كان الناس على قول ابن عبّاس في الغالب، ثمّ على قول أصحابه كطاوس وعطاء ثمّ ابن دينار وابن جريج.
ومعاذ الله أن يفهم من هذا الدعوة إلى التقليد إلا من في قلبه مرض، أو له من وراء ذلك غرض.
وإنّما نقول، يجتهد الطالب قدر استطاعته؛ فمتى كان الإسناد معروفًا لديه، وحال الراوي ماثلاً بين يديه، بما حصل له من دربة، وما ادّخره في الجعبة، أقدمَ فحكم.
وإن التبس الأمر عليه، فليقلّد العارف، وليسلم الأمر إليه، وإن كان مقلّدًا ولا بدّ، فعليه بالحفّاظ ذوي النّقد.
فقال: وفقك الله، وجزاك خيرًا، ولك عليَّ أن أتمسّك بمنهج السلف والمحققين، في الدقيق والجليل من أمور الدين.
قلت: مجلسي هذا مثالٌ تقيس عليه، وأصلٌ تردّ المسائل إليه، وإنما مثّلنا بزيادة الثقة والمخالفة لشهرتها وكثرة طرقها بين الفريقين، ولأنّها أمارةٌ ظاهرة تميّز الطريقين، فامشِ رعاك الله في درب العلم، ولا تأتمّ إلاّ بمن به مؤتمّ.
هذا، والله أعلم، ورد العلم إليه أحكم وأسلم، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
ـ[يحيى العدل]ــــــــ[06 - 06 - 02, 11:23 م]ـ
شكر الله للكاتب .. والناقل .. هذه الدرر .. في بيان مذهب المتقدمين .. وبشرى لأهل هذا المنهج .. بهذا (الحريري المعاصر) .. الذي ينافح عن مذهبهم .. وطريقتهم.
ـ[أبو حازم المسالم]ــــــــ[01 - 02 - 04, 03:58 ص]ـ
رائعة .. من أجمل ما كتب!
زادك الله من فضله.
ـ[ابن مسعود]ــــــــ[06 - 03 - 05, 07:24 م]ـ
للرفع
ـ[عبد القادر المحمدي]ــــــــ[07 - 03 - 05, 08:50 م]ـ
¥