ونكتفي بهذا القدر من الأدلة المأخوذة من السنة على رأي الجمهور في جواز الأمرين، الصوم والفطر في السفر خلال شهر رمضان.
أما الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم فكثيرة نكتفي بأمثلة عنها:
أ_ ما رواه البيهقي بسنده إلى أبي الفيض، قال: كنت في غزوة الشام فخطب مسلمة ابن عبد الملك، فقال: من صام رمضان في السفر فليقضه، فسألت أبا قرصافة رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو صمت ثم صمت حتى عد عشرا لم أقضه" [15] ..
ب_ ما نقله صاحب الفتح عن الطبري في تهذيبه من طريق خيثمة: سألت أنس ابن مالك عن الصوم في السفر فقال: "لقد أمرت غلامي أن يصوم، قال: قلت له فأين هذه الآية {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فقال: إنها نزلت ونحن نرتحل جياعا وننزل على غير شبع وأما اليوم فنرتحل شباعا وننزل على شبع"
قال الحافظ ابن حجر تعقيبا على ذلك: "أشار أنس إلى الصفة التي يكون فيها الفطر أفضل من الصوم" [16]
وأقول: إن أمر أنس لغلامه بالصوم، من أوضح الأدلة على جواز الصيام في السفر في شهر رمضان، لأن أنس أكثر الصحابة التصاقا برسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة بشأنه ..
ج_ ما أخرجه البيهقي بسنده إلى ابن سيرين عن عثمان بن أبي العاص قال: "الصوم في السفر أحب إلي" كما روي عن ابن مسعود بمعناه [17].
أما ما روي عن التابعين:
فقد روى النسائي عن حميد بن مسعدة عن سفيان عن العوام بن حوشب قال قلت لمجاهد: الصوم في السفر، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ويفطر" [18].
كما روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن قال: "إذا أهل الرجل رمضان في أهله وصام منه أيام ثم سافر فإن شاء صام وإن شاء أفطر" [19] ..
الرأي المختار:
بعد هذا العرض الموجز لأهم الأدلة التي استدل بها الفريقان، وما أثير حولها من المناقشات، نرى أن المختار هو رأي الفريق الثاني وأنه أقربها للسنة المحكمة وذلك لما يلي:
أ_ إن العمل بالرأي الأول: يقتضي طرح العمل بكثير من النصوص الصحيحة الثابتة التي تفيد أن الفطر في سفر رمضان رخصة يترك العمل بها لاختيار المسلم، بخلاف العمل بالرأي الثاني فإنه يقتضي العمل بكل النصوص وذلك بإمكان الجمع بين أدلة الفريقين. والجمع بين الأدلة والعمل بها كلها واجب ما أمكن ..
ب_إن القول بوجوب الفطر في السفر قد يكون فيه مشقة لمن كان دائم السفر كالسائقين والمضيفين في الطائرات وكل العاملين في مجال المواصلات من سيارات وطائرات وسفن وغيرها إذ هؤلاء وأمثالهم لو ألزموا بالفطر في سفرهم خلال رمضان لصار صوم الشهر دينا ثابتا يتراكم عليهم عاما بعد عام بل ربما يموتون وعليهم صيام سنين، وقد وضح ذلك من خلال قصة حمزة بن عمرو الأسلمي ..
ج_ في هذا العصر وبعد التقدم الكبير في وسائل المواصلات والذي جعل السفر الآن لدى قطاعات كبيرة من المسلمين أقرب للمتعة منه إلى المشقة التي شرع الفطر من أجلها. فإن المسلم قد يرى الصائم أيسر عنده من الفطر، أولا: لعدم إحساسه بالمشقة التي تضعفه عن تحمل الصيام .. ، وثانيا: لأن الفطر سيترتب عليه أن تظل هذه الأيام دينا في رقبته ويطالب بقضائها بعد انتهاء السفر .. والله أعلم ..
أيهما الأفضل: الصيام أم الفطر للمسافر القادر على الصيام دون مشقة؟
بعد أن بينا بوضوح حكم الصوم والفطر للمسافر خلال شهر رمضان وهو جواز الأمرين. نبين الآن، مدى هذا الجواز بالنسبة للشخص القادر على الصيام بدون ضرر عليه، وبمعنى أوضح، هل هذا الجواز يقف عند حده الأدنى، أي أن الصوم والفطر يستويان في الفضل بدون زيادة لأحدهما على الآخر فيه، أو أن أحدهما أكثر فضلا من الآخر، فينبغي المصير إليه، ندبا أو استحبابا؟ لبيان ذلك نقول:
من يرى أفضلية الصوم عن الفطر:
نقلت أفضلية الصوم عن الفطر للمسافر القادر على الصوم بدون مشقة عن عدد كبير من الصحابة والتابعين وفقهاء الإسلام، نذكر منهم على سبيل المثال:
من الصحابة: حذيفة بن اليمان، وأنس بن مالك، وعثمان بن أبي العاص، وابن مسعود، وأبو قرصافة.
ومن التابعين: عروة بن الزبير، والأسود بن يزيد، وأبو بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث، وسعيد بن جبير، والنخعي، والفضيل بن عياض
ومن الفقهاء: مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، والثوري، وعبد الله بن المبارك، وأبو ثور، وآخرون [20].
من أهم أدلة هذا الفريق ما يلي:
¥