وقد نقل عن الحافظ ابن حجر تصحيحه لهذا الحديث وتوثيقه لرجاله عند النسائي [27].
ويناقش هذا الاستدلال بأن هذا التحديد الوارد في الحديث لم يكن مقصوداً وإنما كان ذلك أمراً اتفاقياً - فقد مكث صلى الله عليه وسلم هذه المدة حتى يطمئن إلى استقرار الأحوال في مكة عام الفتح: وكانت المدة التي استلزمها هذا الأمر هو خمسة عشر يوماً كما في هذا الحديث أو زيادة على هذه المدة كما في أحاديث أخر.
وذهب إسحاق بن راهويه إلى تحديد هذه المدة بتسعة عشر يوماً، لحديث ابن عباس: سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً فصلى تسعة عشر يوماً ركعتين ركعتين. قال ابن عباس فنحن نصلي فيما بيننا وبين تسع عشرة ركعتين ركعتين فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعاً "قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح" [28].
وهذا التحديد بتسعة عشر يوماً في الواقع هو اختيار من ابن عباس رضي الله عنه وإلا فما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفيد هذا التحديد لأن الظروف هي التي استدعت إقامته صلى الله عليه وسلم هذه المدة بمكة فكان يقصر الصلاة فيها، مع العلم بأن هذا الحديث هو إحدى الروايات الكثيرة الواردة في هذا الموضوع فإلى جانب رواية الخمس عشرة التي تمسك بها أبو حنيفة، ومن معه، ورواية تسع عشرة التي تمسك بها إسحاق، هناك رواية ثالثة بسبع عشرة عند أبي داود وعن ابن عباس كذلك، ورواية رابعة عن عمران ابن حصين (شهدت معه الفتح فأقام بمكة ثمانية عشر ليلة لا يصلي إلا ركعتين) [29]. وبالجملة: فإن عنصر القصد غير واضح في هذا الحديث والتحديد الوارد فيه، هو أمر اتفاقي، أي أنه حادثة عين وكما قيل: فإن حوادث الأعيان لا يستدل بها على عموم الأحكام.
وذهب مجد الدين بن تيمية صاحب منتقى الأخبار إلى تحديد المدة بعشرة أيام- أو بأحد عشر يوماً- المستفادة من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح في رمضان وصام حتى إذا بلغ الكديد، الماء الذي بين قديد وعسفان، فلم يزل مفطراً حتى انسلخ الشهر [30].
قال مجد الدين تعقيبا على هذا الحديث، ووجه الحجة منه: أن الفتح كان لعشر بقين من رمضان هكذا جاء في حديث متفق عليه [31].
وقد أوضح الشوكاني كيفية الاستدلال بهذا الحديث كما يلي:
الأصل في المقيم ألا يفطر لزوال مشقة السفر عنه إلا لدليل يدل على جوازه وقد دل الدليل على أن من كان مقيماً ببلد وفي عزمه السفر يفطر مثل المدة التي أفطرها صلى الله عليه وسلم بمكة وهي عشرة أيام أو أحد عشر على اختلاف الروايات فيقتصر على ذلك ولا يجوز الزيادة إلا بدليل [32].
وما قيل في التعقيب على الاستدلال الذي قال به كل من أبي حنيفة وإسحاق يقال هنا: أي أن التحديد الوارد في هذا الحديث لم يكن مقصوداً وإنما حدث اتفاقا وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- حسبما جاء في هذه الرواية- أن وصل إلى مكة في اليوم التاسع عشر من رمضان وظل في مكة بقية الشهر ليرتب أمورها بعد الفتح، من تعيين حاكم لها وتسليم أصحاب وظائف الكعبة وظائفهم وغير ذلك مما يحتاج إليه في مثل هذه الحالة وقد استغرق ذلك زمناً، منه هذه المدة الباقية من رمضان.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، لو كان صلى الله عليه وسلم دخل مكة قبل هذا التاريخ، أي في اليوم العاشر مثلا من رمضان؟ فهل كان سيستمر مفطراً إلى نهاية الشهر أم كان سيقطع الرخصة ويصوم بعد انتهاء مدة العشرة أيام أو الأحد عشر؟.
وأرى- والله أعلم- أن هذا الحديث يستدل به على أن الإنسان إذا نزل بمكان ما لأمر ما وفي نيته العزم على استمرار السفر ولا يدرى متى تنتهي مهمته من هذا المكان حتى يواصل سفره- فإن مثل هذا يستمر على فطره ولو قضى الشهر كله في هذا المكان.
وموضع الشاهد من الحديث على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في نيته فتح مكة والعودة إلى المدينة ولم يكن في نيته العزم على الإقامة مدة محددة بل كانت إقامته مرهونة باستقرار الأحوال في مكة فمتى استقرت الأحوال وعادت الأمور إلى طبيعتها غادر مكة إلى المدينة أو إلى مكان آخر.
¥