فقال:'لأمر ما سهروا ليلهم، لأمر ما خشعوا نهارهم. ثم قرأ:} وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [65] {[سورة الفرقان]. قال: كل شيء يصيب ابن آدم، ثم يزول عنه فليس بغرام، إنما الغرام الملازم له ما دامت السماوات والأرض قال: صدق القوم والله الذي لا إله إلا هو، فعلموا وأنتم تمنون، فإياكم وهذه الأماني؛ فإن الله لم يعط عبداً بأمنيته خيراً قط في الدنيا والآخرة، وكان يقول:' يالها من موعظة لو وافقت من القلب حياة '.
فتية يُعرف التخشع فيهم كلهم أحكم القرآن غلاما
قد برى جلدهم التهجد حتى عاد جلداً مصفراً وعظاما
تتجافى عن الفراش من الخوف إذا الجاهلون باتوا نياما
بأنين وعبرة ونحيب ويظلون بالنهار صياما
يقرؤون القرآن لا ريب فيه ويبيتون سجداً وقياما
قرأ ابن عمر رضي الله عنه بـ:} وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [1] {فلما بلغ:} يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [6] {[سورة المطففين]. بكى حتى خر وامتنع عن قراءة ما بعدها [الزهد لوكيع]. وبات رجل عند الربيع بن خثيم ذات ليلة، فقام الربيع يصلي، فمر بهذه الآية:} أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا ... [21] {[سورة الجاثية]. فمكث ليلة حتى أصبح يبكي بكاء شديداً لا يجاوز هذه الآية.
لهم دموع من خشوع نفوسهم ودموعها فوق الخدود غزارُ
يقول مسروق: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري صلى ليلة حتى أصبح، أو كاد يقرأ آية، ويرددها ويبكي:} أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا ... [21] {[سورة الجاثية].
بكى الباكون للرحمن ليلاً وباتوا جمعهم لا يسأمونا
بقاع الأرض من شوق إليهم تحن شي عليها يسجدونا
وكان إبراهيم النخعي إذا سمع قوله تعالى:} إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ [1] {[سورة الانشقاق] اضطرب حتى تضطرب أوصالة. واشتكى ثابت البناني عينه، فقال له الطبيب: اضمن لي خصلة تبرئ عينيك. قال: ما هي؟ قال: لا تبك. قال:'وما خير في عين لا تبك' [الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا].
نزف البكاء دموع عينك فأستعر عيناً لغيرك دمعها مدرارُ
من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عيناً للدموع تُعارُ
وكان عبد الله بن الزبير يسجد، فيأتي المنجنيق، فيصيب ثوبه، ولربما أصاب طرف ثوبه، وهو لا يتحرك في صلاته، ولا يرفع رأسه، ولا يلتفت. ودخل عليه رجل بيته، فإذا به يصلي، فسقطت حية على ابنه هاشم، فصاحوا: الحية! الحية! ثم قتلوها، وما قطع صلاته، ولما سئل بعد الصلاة قال:' ما شعرت بشيء من ذلك'. ويقول ثابت البناني: كنت أمر بابن الزبير وهو خلف المقام يصلي كأنه خشبه منصوبة لا تتحرك. ووصفة بعضهم إذا صلى كأنه عود من الخشوع، وكان يسجد، فلربما نزل الطير على ظهره تحسبه الطيور جذع حائط. وصلى يوماً في الحجر، فجاء حجر من المنجنيق، فضرب ثوبه فما انفتل، وما تحرك وما التفت. وذلك في حصار الحجاج للكعبة.
وكان مسلمة بن بشار في المسجد فانهدمت طائفة من المسجد، فقام الناس ولم يشعر أن أسطوانة المسجد قد انهدمت!! وهذا يعقوب الحضرمي لم يُر في زمانه مثله، بلغ من زهده أنه سُرق رداؤه عن كتفه وهو في الصلاة، ورُد إليه ولم يشعر.
محي الليل صلاة لا يقطعها إلا بدمع من الإنشغاق منسجمِ
مسبحاً لك جنح الليل محتملاً ضراً من السهد أو ضراً من الورمِ
رضية نفسه لا تشتكي سأما وما على الحب إن أخلصت من سأمِ
وهذا محمد بن إسماعيل البخاري ذُكر في قصته وترجمته أنه خرج مع قوم إلى حائط مزرعة، فقام يصلي بالناس الظهر، فلما فرغ قام يتطوع، فلما فرغ من تطوعه رفع ثوبه وقال لبعض من معه: انظروا هل ترون تحت قميصي شيئاً؟ فإذا زنبور قد أبره في ستة عشر، أو سبعة عشر موضعاً، وتورم ذلك من جسده، فقال له بعض القوم: كيف لم تخرج من الصلاة في أول ذلك؟.قال: كنت في سورة فأحببت أن أتمها. وهذا محمد بن يعقوب الأخرم يقول: ما رأينا أحسن صلاة من صلاة محمد بن نصر- يعني المروزي- كان الذباب يقع على بدنه – يعني الزنبور – ولا يذبه عن نفسه، ولقد كنا نتعجب من حسن صلاته وخشوعه وهيبته للصلاة، كان يضع ذقنه على صدره، فينتصب كأنه خشبه مسنودة. ووصفه آخر يقول: رأيت محمد بن نصر ما رأيت أحسن صلاة منه، ولقد بلغني أن زنبوراً قعد على جبهته، فسال الدم على وجهه، ولم يتحرك.
وكان كرز بن وبرة إذا دخل في الصلاة لا يرفع طرفه يمنة ولا يسرة، وكان من المخبتين، وربما كُلم خارج الصلاة فلا يُجيب إلا بعد مدة من شدة استغراقه في التفكير. يقول الذهبي رحمة الله -معلقاً على ذلك-: هكذا كان زهاد السلف، وعبادهم، أصحاب خوف وخشوع وتعبد. ووقع حريق في بيت على بن الحسين، وهو ساجد، فجعلوا يقولون: يا ابن رسول الله النار .. النار، فما رفع رأسه حتى أطفأت، فقيل له في ذلك فقال:' ألهتني عنها النار الأخرى '. وكان مسلم بن يسار يقول لأهله إذا دخل في صلاته:'تحدثوا فلست أسمع حديثكم'.
هذه نماذج من رجال السلف، وحينما أذكر أشياء من ذلك إنما أذكر ما قرب منه، وأما الأمور التي قد تنبو عنها الأسماع، ولا تدركها كثير من العقول؛ فإني أتجاوز ذلك أجمع، ومع ذلك كثير منا يظن أن هذه الأمثلة والنماذج سواء في الخشوع، أو في الإخلاص، أو في التوكل، أو في التفكر، أو ما سيأتي في الورع، وما سبق في اليقين، وغير ذلك أن هذه من الأمور التي لا يمكن الوصول إليها، وأنها بعيدة المنال!! وليس الأمر كذلك بل هي أمور تحصل للعبد بالمجاهدة، ولهذا يقول محمد بن المنكدر' كابدت الصلاة عشرين سنة وتلذذت بها عشرين سنة ' هذا آخر الكلام عن الخشوع.
المصدر .. مفكرة الإسلام ( http://links.islammemo.cc/dros/one_news.asp?IDnews=253)
¥