وذلك في قوله تعالي (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً) (النساء:110)
وهذه الآية جاءت في مقام الحديث عن إنصاف رجل يهودي اتُهم ظلماً بالسرقة من بيت من الأنصار كان السارق منهم وظن هؤلاء أن اتهام اليهودي سيرضى الجميع وبخاصة أن السارق ألقي بالدرع المسروق في بيت اليهودي فنزل القرآن ليعلن الرسول بالحقيقة حتى يحكم بين الناس بما أراه الله ولا يجادل عن السارق لمجرد أنه مسلم فالحق أحق أن يتبع، وللشيخ سيد قطب حول هذا السياق كلام جميل.
وسياق الآيات كأنه حملة [يفوح منها الغضب، على الخائنين] والعقاب الشديد للمجادلين عنهم، ومع ذلك (من يستغفر يجد الله غفوراً رحيماً) والذي يلفت النظر هنا هو بناء الجملة الذي أشعر أن المستغفر يبحث عنها، فيجدها عند الله سبحانه [إنه سبحانه موجود للمغفرة والرحمة حيث قصده مستغفر منيب]
أقول إن بناء العبارة يشعر بأن المقام تقل فيه المغفرة، ويعز فيه العفو فيظل البحث عنهما فلا يتحصل المستغفر علي المغفرة ولا يتحقق من العفو إلا عند الله تعالي [فمعنى (يجد الله غفوراً رحيماً) أي: يتحقق ذلك له، فاستعير الفعل (يجد) للتحقق لأن الفعل (وجد) حقيقته الظفر بالشيء ومشاهدته فأطلق على تحقيق العفو والمغفرة على وجه الاستعارة]
ووجه الجمال في ذلك أن هذه الجملة رسمت للقارئ المغفرة على أنها كنز محسوس يُرى ويتحصل عليه ويتمتع به بمجرد الاستغفار، ويزيد هذا المعنى رسوخا بمجئ اسمه (غفوراً) مفعولاً ثانياً، والمفعول هو ما وقع عليه الفعل.
أضف إلى ذلك أن حركة الفتح في المفعول به، وتنكير الكلمة يشيران إلى هذا الفيض، فالنكرة بما فيها من عموم، والفتحة بما توحيه من سعة يتناغمان مع معنى الإيجاد والاستحواذ لأن البحث كان عن عزيز نادر البحث،كان عن مغفرة في مقام الغضب، حتى أعيد اسم (الله) مرتين وفيه ما فيه من جلال، وذلك في قوله (ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً).
وكأن العقاب كان متوقعاً، لذلك فُهم أن من يعمل سوءًا ثم يستغفر مُتوقِعاً العقاب من الله يجد الله غفوراً رحيماً.
وهكذا تفاعلت عناصر التركيب لتوافق هذا السياق فجئ باسمه (غفوراً) مفعولاً به، نكرة، منصوباً بالفتحة، مسبوقاً باسم الجلالة (الله)؛ ليشير كل جزء من هذه العناصر إلى معنى، لكن في الختام لا تخرج عن سياق الآيات ومقامها.
هذا هو الاسم الوحيد الذي ورد مفعولاً به، أما باقي الأسماء المنصوبة فقد جاءت خبراً لكان الناقصة.
مجئ اسمه الغفور خبراً لكان الناقصة
وردت صورة المعنى في جملة (كان) على شاكلتين:
الأولي: مجئ (كان) في أول الجملة ثم يتبعها الاسم والخبر ظاهرين نحو قوله تعالي (وكان الله غفوراً رحيماً).
الأخرى: تقديم (إن) المؤكدة الناسخة على (كان) ثم مجئ الاسم ظاهراً، أو مضمراً ثم مجئ (كان) ثم خبرها (غفوراً) وذلك نحو: (إن الله كان غفوراً رحيماً) أو (إنه غفوراً رحيماً).
(وكان) من الألفاظ التي يكثر دورانها في القرآن الكريم، ويكثر الإخبار بها عن ذات الله سبحانه، وقد ذكر الزركشي كلاماً لعلمائنا في المراد من (كان) في مثل هذه الجمل، وأنا أوجز كلامه فيما يلي:
قال [(كان) حيث وقعت في صفات الله تعالي، فهي مسلوبة الدلالة على الزمان ...
وحيث وقع الإخبار بها عن صفة ذاتية فالمراد الإخبار عن وجودها، وأنها لم تفارق ذاته، ولهذا يقدرها بعضهم بـ (مازال) فراراً مما يسبق من الوهم ... أي أزلية الصفة، ثم تستفيد بقاءها في الحال، وفيما لا يزال بالأدلة العقلية وباستصحاب الحال ...
وحيث وقع الإخبار بها عن صفة فعلية فالمراد تارة: الإخبار عن قدرته عليها في الأزل، نحو: كان الله خالقاً رازقاً ...
وتارة: تحقيق نسبتها إليه، نحو (وكنا فاعلين) الأنبياء 79.
وحيث أخبر بها عن صفات الآدميين، فالمراد: التنبيه على أنها فيهم عزيزة وطبيعة مركوزة في نفسه نحو: (وكان الإنسان عجولاً ... ) الإسراء 11 أي: خلق على هذه الصفة ....
وحيث أخبر بها عن أفعالهم دلت على اقتران مضمون الجملة بالزمان نحو: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات) الأنبياء 90، وقال الصفار في شرح سيبويه:
¥