فيقال:إن الله كان غفوراً رحيماً
فيكون الأساس في الجملة ليس (كان) إنما (إن) ويأتي اسم (إن) علماً ظاهراً وهو اسم (الله).
ثم يزداد الثراء فيأتي اسم (إن) ضميرا، ثم تأتي جملة- كان- لتقع موقع الخبر لها، فيقال:إنه كان غفوراً رحيما.
ولا شك أن هذه الصور لها دلالات ينبغي الكشف عنها من خلال السياق والمقام.
والإمام عبد القاهر تحدث عن اعتماد الجملة على (إن) وقيمة هذا الحرف في الجملة وقدرته على ربط المعاني، ونظمها في سلك واحد حيث يقول [إنك ترى الجملة إذا هي دخلت ترتبط بما قبلها، وتأتلف معه وتتحد به، حتى كأن الكلامين قد أفرغا إفراغاً واحداً وكأن أحدهما قد سبك في الآخر ... ]
وقال وهو يعرض بيت الشعر المشهور (بكراً صاحبي).
[الغرض: أن يحتج لنفسه في الأمر بالتبكير ويبين وجه الفائدة فيه.].
وعلى ذلك، فإن انضمام (إن) إلى عائلة الجملة بحيث يصبح الاسم الجليل (الله) اسماً لها، ثم تأتي (كان) وجملتها لتكون خبراً لها يشعر بأن التوكيد وربط الكلام السابق باللاحق هو الأساس وتصير (كان) مع جملتها تابعة وعنصراً من عناصر جملة (إن) فالاحتجاج لما سبق وبيان الفائدة هو الأصل هنا، ولعل العلامة ابن عاشور يعمد إلى هذا المعني وهو يفسر قوله تعالي (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللأتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) (النساء:23)
يقول: [وقوله (إن الله كان غفوراً رحيماً) يناسب أن يكون معنى (إلا ما قد سلف) تقرير ما عقدوه من ذلك في عهد الجاهلية، فالمغفرة للتجاوز عن الاستمرار عليه، والرحمة لبيان سبب ذلك التجاوز]
وكأن جملة (إلا ما قد سلف) هي معنى (كان الله غفوراً).
(فإنّ) ربطت الكلام وأفرغته إفراغاً واحداً، وأضفت عليه من الرسوخ والتمكين ما لا يوجد لو أنها حذفت، في حين جُعِلت- كان- دليلاً على دوام المغفرة من الله تعالي وأنها صفة ملازمة لاسمه الكريم، لكل من جمع بين أختين دون علمه بالحرمة.
ولعل من دلالات (إن) أيضاً هنا أن المخاطب قد يهجس في نفسه هاجس العقوبة للجمع بين الأختين فأكدت له المغفرة لنزع هذا الهاجس من نفسه.
فإذا جئ إلى الآيات الأخرى والتي عُرضت فيها صفة المغفرة خبراً لكان،ثم جاءت الجملة خبراً لإن فإنه يلحظ أن الكلام- كما قال الإمام في دلالة (إن) - كأنه أفرغ إفراغاً واحدا ً، ففي سورة النساء يقول الله تعالي (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) آية106.
وفي سورة الأحزاب تتكرر الصورة نفسها: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) آية 24.
فهناك تآلف بين عدة عناصر في الجملة تهدف إلى مزج كل ألفاظها وسبكها في إطار واحد، هذا الإطار هو تأكيد المغفرة والرحمة.
وهذه العناصر هي
1 - (إن) 0
2 - (كان) المشعره بأن المغفرة صفة لا تنفك عنه سبحانه0
3 - اسمية الجملة، حيث بدئ بـ (إن) وجعلت كان مع جملتها خبراً، وفي الجملة الاسمية ثبوت ودوام لا يزول.
4 - وضع هذه الجملة ختاماً للمعاني لتكون ثمرة أو نتيجة أو تعليلاً أو احتجاجاً لما
سبق، والأدلة دائماً ما تكون محل توكيد.
5 - مجئ اسمه (غفوراً) نكرة وفي النكرة عموم ومجيئه مفتوحاً وفي الفتحة كما
يقول ابن منظور [الفتحة خفيفة إذا خرج بعضها خرج سائرها فلا تقبل
التبعيض]
كل هذه العناصر تتحد لتكوّن هذه الصورة المليئة الحية.
¥