[واعلم أن للخبر المعرف بالألف واللام معنى غير ما ذكرت، وله مسلك ثَمّ دقيق، ولمحة كالخلس يكون المتأمل عنده يعرف وينكر، كما يقال: (هو البطل المحامي) (وهو المتقى المرتجى) وأنت لا تقصد شيئاً مما تقدم فلست تشير إلى معنى قد علم المخاطب أنه كان، ولم يعلم أنه ممن كان؟ كما مضى في قولك: زيد هو المنطلق، ولا تريد أن تقصر المعنى عليه، على معنى أنه لم يحصل لغيره على الكمال كما في قولك: (زيد هو الشجاع) ولا أن تقول أنه ظاهر بهذه الصفة كما في قولك، (والدك العبد) ولكنك تريد أن تقول لصاحبك:
هل سمعت بالبطل المحامي؟
هل حصلت معنى هذه الصفة؟
وكيف ينبغي الرجل حتى يستحق أن يقال ذلك له، وفيه؟ فإن كنت قتلته علماً وتصورته حق تصوره فعليك صاحبك وأشدد به يدك فهو ضالتك، وعنده بغيتك وطريقه طريق قولك:هل سمعت بالأسد؟ وهل تعرف ما هو؟ فإن كنت تعرفه فزيد هو هو بعينه.
وهذا من عجيب الشأن وله مكان من الفخامة والنبل وهو من سحر البيان الذي تقصر العبارة عن تأدية حقه.
والمعول فيه مراجعة النفس واستقصاء التأمل.]
إن جمال هذا المعنى الجديد كامن في خفائه، عكس المعاني الأخرى فإن الناس قد هُدوا إليها أو دُلوا عليها.
أما هذا الخبر الموهوم أو المتخيل، أو الصورة المثلي فهي في نفس كل قارئ، تتجدد بتجدده وتزداد رحابة بالزمان والمكان 0
فكل قارئ للقرآن الكريم لديه صورة في خياله هي المثلى في المغفرة، ولديه نموذج هو الأسمى للغافرين، فإذا حصل ذلك فليعلم أن المثالية في المغفرة والغافرين كائنه في الله سبحانه (فهو الغفور) وهذا هي الآيات:
في سورة يونس آية 107 (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
وهذا الآية جاءت في خواتيم السورة، والسورة يغلب على آياتها تعريف الناس بهذا الإله الخالق ففي أولها من البداية وحتى النهاية لا يغيب هذا الخيط، وذلك نحو:
(إن ربكم الله الذي خلق ... وهو الذي جعل الشمس ضياءً .... هو الذي يسيركم ... قل من يرزقكم من السماء والأرض ... فذلكم الله ربكم .... قل هل من شركائكم من يبدؤ الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤ الخلق ثم يعيده .... قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق ......... هو يحي ويميت ... هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ... ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم .... )
كل ذلك تعريف بالله تعالي وخيط يمسك بمعاني السورة من أولها إلى آخرها كما أن العين لا تخطئ ملاحظة هذا الضمير (هو) في أغلب الجمل ..
حتى تأتي جملة (وهو الغفور الرحيم) لتضع لبنة من لبنات هذا التعريف.
فإذا كان التعريف به سبحانه عن طريق أنه خلق ورزق وأحيا وأمات فلا شك أنه الغفور لمن خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم.
فالسورة من بدايتها حتى هذه الآية عرفَتْ الخلقَ بخالقهم ثم جاءت جملة (وهو الغفور) لتقول لهم إن هذا الذي عرفتموه وعبدتموه هو الغفور، أي هو الكامل في المغفرة، فالمغفرة الكاملة المتصوَّرة من عقل كل ذي عقل لا توجد إلا له سبحانه
وربك الغفور
تلك صورة أخرى لمجئ اسمه (الغفور) مرفوعا حيث جاء خبراً لمبتدأ وهو اسم (الرب) المضاف إلى كاف الخطاب، وجاء ذلك في سورة الكهف في قوله تعالي: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) (آية:58)
وسورة الكهف من السور الأربع التي بدأت بالحمد، والحمد هنا على إنزال الكتاب على عبده واختصاصه بهذا الإنزال، وهذا الاختصاص تلاه سياق طويل في السورة يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، ويخصه بالكلام، فالقصص له .... وتبيان قدرة الله تعالى كان تسليه له ... وإبراز ما يحدث يوم القيامة كان له ... وكأن السورة مناجاة بين الحق جل وعلا وبين حبيبه صلى الله عليه وسلم ولذلك امتازت الجملة، بميزتين على ما عداها في القرآن الكريم.
الأولى: أن المبتدأ جاء باسم الرب ومضافاً إلى كاف الخطاب العائد على رسول الله e.
والأخرى أن اسمه (الرحيم) جاء في قالب جديد وهو (ذو الرحمة).
¥