أما مجئ المبتدأ باسم (الرب) ففيه من الود والأنس ما لا يخفي، وإذا كان اسم الرب وحده مشعر بهذا الفيض من الحب واللطف، فما بالك حين يضاف إلى كاف الخطاب العائد على الحبيب e ؟! .
لا شك أن الاسم سيأخذ أبعاداً أخرى فيها معنى التذكير بالنعم وأولها إنزال الكتاب عليه دون غيره، ومنها الإشارة إلى هذه الاختصاصات المتقدمة له في السورة، مثل
(نحن نقص عليك ... لعلك باخع نفسك .... وترى الشمس .... وتحسبهم .... لا تقولون لشيء إن فاعل ذلك غداً .. اصبر نفسك .... واضرب لهم مثلاً .. وعرضوا على ربك .... وربك الغفور ....
فهذا الإلحاح على خطابه e، وتوجيه الكلام إليه خاصة يعطى للمعني خصوصية لا توجد في غيره، ويؤيد هذا مجئ وصف- الرحيم - بصيغة خاصة وهي (ذو الرحمة) [و إنما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة لا في الرحمة؛ لأن المغفرة ترك الإضرار وهو تعالي قد ترك مضار لانهاية لها مع كونه قادرا عليها، أما فعل الرحمة فهو متناه لأن ترك ما لانهاية له ممكن، أما فعل ما لانهاية له فمحال وتقديم الوصف الأول: لأن التخلية قبل التحلية، أو لأنه أهم بسبب الحال إذا المقام مقام بيان تأخر العقوبة عنهم بعد استيجابهم لها، كما يعرب عنه قوله عز وجل (لو يؤاخذهم بما كسبوا .... ].
[وتحرير نكتة التفرقة بين الخبرين ... أن المذكور بعد عدم مؤاخذاتهم بما كسبوا من الجرم العظيم - وهو مغفرة عظيمة وترك التعجيل رحمة منه تعالي، سابقة على غضبه، لكنه لم يرد سبحانه إتمام رحمته عليهم، وبلوغها الغاية، إذ لو أراد – جل شأنه – لهداهم وسلمهم من العذاب رأساً، وهذه النكتة لا تتوقف على حديث التناهي وعدم التناهي.
كما أن (ذو الرحمة) لا يخلو عن المبالغة ... لاقتران الرحمة بـ (أل) فتفيد الرحمة الكاملة أو الرحمة المعهودة التي وسعت كل شيء.
أما (ذو) فإن دلالته على الاتصاف في مثل هذا التركيب فوق دلالة المشتقات عليه، ولا يكاد يُدل سبحانه على اتصافه بصفة بهذه الدلالة إلا وتلك الصفة مراده على الوجه الأبلغ، وإلا فما وجه العدول عن المشتق الأخصر الدال على أصل الاتصاف " كالراحم " مثلاً إلى ذلك؟
فدلالة (ذو الرحمة) أقوى لأنها بواسطة أمرين، فهي أبلغ من كل واحد من (الرحمن) و (الرحيم) وإن كانا معاً أبلغ منه ولذا جئ بهما في البسملة دونه، ومَنْ أنصف لم يشك في أن قولك (فلان ذو العلم) أبلغ من قولك: فلان يعلم، بل ومن قولك: فلان عليم، من حيث إن الأول يفيد أنه صاحب ماهية العلم ومالكها ولا كذلك الأخيران.
وحينئذ يكون التفاوت بين الخبرين في الآية بأبلغية الثاني، ووجه ذلك ظاهر، فإن الرحمة أوسع دائرة من المغفرة كما لا يخفي.
والنكتة فيه هنا مزيد إيناسه صلى الله عليه وسلم بعد أن أخبره سبحانه بالطبع على قلوب بعض المرسل إليهم مع علمه جل شأنه بمزيد حرصه e... وهو السر في إيثار عنوان الربوبية مضافاً إلى ضميره e... في قوله (وربك الغفور ذو الرحمة)]
مجئ اسمه (الغفور) خبراً لـ (إن)
الصورة الأخيرة لمجئ اسمه (الغفور) مرفوعاً هو أن يكون خبراً لإن الناسخة، وهذه الصورة تفرعت منها صور شتى لتواءم كل صورة المقام الذي جاءت فيه.
فقيل مرة: إن الله غفور رحيم
وقيل: إن ربك غفور رحيم
وقيل: إن ربك من بعدها – لغفور رحيم
وقيل: أني غفور رحيم – وأني أنا الغفور الرحيم
ولا يخفي أن التأكيد في الجملة ينصب على الخبر، والخبر هو اسمه (الغفور) مما يعني أن مسافات هذه الجمل التي أخبر فيها عن مغفرة الله تعالي تحتاج إلى توكيد ...
كما أن اصطفاء هذه الأداة (إن) لتكون عاملاً للتوكيد يفيد أن الاتجاه السائد في هذه الجمل هو إزالة الشكوك لدى القارئ من أول وهلة وصراحة، فالتوكيد أصل في الدلالة هنا، ولا يخفى أن [التوكيد بـ (إن) أقوى من التأكيد باللام، وأكثر مواقع (إن) بحسب الاستقراء، الجواب لسؤال ظاهر، أو مقدر، إذا كان للسائل فيه ظن .....
كما أن من مواقعها التعليل ... وهو نوع من التوكيد .... ]
ولقد سبقت الإشارة إلى حديث عبد القاهر عن (إن) وأنها تربط الكلام وتخرج جملتها مخرج الحجة لما سبق، وتظهر وجه الفائدة فيه .....
¥