ومن هو قائم بذلك كله وغيره لا يبخل على المقصرين ممن خلقهم ورزقهم ودبر أمورهم بالمغفرة لذنوبهم.
والعجيب أن آية الأعراف وآية النحل تذكر هذه الأفعال بلفظ (السوء والسيئات) لتكون تبشيراً بمغفرتها بعد التوبة.ففي الأعراف يقول الله تعالي (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (لأعراف:153)
وهذا قد جاء بعد قوله (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) (لأعراف:152)
فلما كان الذنب عظيماً ثم ندموا وعادوا ناسبه أن يحضره عند المغفرة بقوله (من بعدها) كما ناسبه المجئ باسم الرب بدلاً من اسم الله فإذا كان المآل مغفرة فالأولي به اسم (الرب) وزاد من ذلك إضافته إلى كاف الخطاب العائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيان عظمة الإحسان إليهم.
وفي النحل يقول الله تعالي: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل:119)
ولاحظ هنا تكرار – (من بعد ذلك) ثم قال (من بعدها) فالآية تعمد عمداً إلى إحضار الذنب، فما هو؟ إنه قولهم: (هذا حلال وهذا حرام)
وتلك خصيصه الألوهية لذلك كان إحضارها مقصوداً لبيان عظم المغفرة.
لكن موقع سورة النور لم يكن حديثاً عن الذنب من حيث هو ولكن عن شناعته حيث إن الفطر السوية تأباه وتنكره لذلك أرادت الآيات أن تحضره بل وتعيده ليرسخ في الذهن واسمع ذلك:
(وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور:33)
(وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ) (النور: من الآية33).
فالإعادة هنا والتكرار جاء ثلاث مرات،وكأنه أمر غير متصور أريد من السامعين تخيله ثم عقب عليه بالمغفرة وألصق الفعل أو الإكراه بلفظ (غفور) فقيل:
(من بعد إكراههن غفور)
لتنظر العين الكلمتين دفعة واحدة وتستشعر قيمة ودلالة اسمه الغفور
المبحث الثالث
اسم (الغفور) بين الاعتناق والتفرد
لم يرد اسم من الأسماء الثلاثة منفرداً إلا في ثلاثة مواضع:
الأول في سورة الإسراء في قوله سبحانه (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً) (الإسراء:25)
والثاني في قوله (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى) (طه:82)
والثالث في قوله تعالي (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً) (نوح:10)
وقد سبق تحليل هذه الآيات في مواضع سابقة، وذكر فيها وجه إفرادها لكنني هنا أقف على اقتران هذه الأسماء بأسماء أخرى، لأحاول بيان مدى اكتساب اسمه (الغفور والغفار) ظلالاً جديدة تضاف إليه من هذه الأسماء المتعانقة معه وأثر السياق والمقام في اصطفاء الاسم الآخر لندرك أنه قد اختير بعناية وحكمة وأنه لا يجدي غيره لو وضع مكانه وهذا يعرف عند البلاغيين بالتمكين أو ائتلاف القافية .. ومن الإحصاء ظهر الآتي:
أولاً: جاء اعتناق اسم (الغفور) باسم (الرحيم) 76 مرة
ثانياً: جاء اعتناق اسم (الغفار) باسم (الحليم) 7 مرات
ثالثاً: جاء اعتناق اسم (الغفار) باسم (العزيز) 5 مرات
رابعاً: جاء اعتناق اسم (الغفور) باسم (العفو) 4 مرات
خامساً: جاء اعتناق اسم (الغفور) باسم (الشكور) 3 مرات
سادساً: جاء اعتناق اسم (الغفور) باسم (الودود) مرة واحدة
أولاً: اعتناق الغفور والرحيم
أصل كلمة الرحيم هي (الراء والحاء والميم، وهذا أصل واحد يدل على الرقة والعطف والرأفة، يقال من ذلك: رحمة، يرحمه، إذا رق له، وتعطف عليه، والرحم: علاقة القرابة، ثم سميت رحم الأنثى رحماً من هذا: لأن منها يكون ما يرحم به، ويرق له من ولد.]
¥