ولا يتصور أن العبد عند عبادته يطلب شيئاً قبل المغفرة، إنها شغل العباد الشاغل: أن تغفر لهم ذنوبهم، فعجل لهم ذلك، وقدمت المغفرة في جميع المواضع على (الشكور) لأنها مقصود العباد الأول فبشروا به أولاً.
سادساً: اعتناق الغفور والودود
يقول ابن فارس: [الواو والدال كلمة تدل على محبة، وددته: أحببته، وودت أن ذاك كان، إذا تمنيته ... وهو وديد فلان، أي: يحبه]
[والودود: فعول بمعني فاعل، ويجوز أن يكون فعولاً بمعنى مفعول]
ولم يتعانق اسمه (الغفور) مع اسمه (الودود) في القرآن الكريم إلا في موضع واحد وذلك في سورة البروج في قوله تعالي (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ، إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) (البروج:12، 13، 14)
وسياق سورة البروج سياق غضب على هؤلاء الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات وقد امتلأت السورة بأسمائه وصفاته وأفعاله المنذرة المشعرة بالقدرة والهيمنة وذلك نحو [الله – العزيز – الذي له ملك السماوات والأرض – الله على كل شيء شهيد – بطش ربك لشديد – إنه هو يبدئ ويعيد – ذو العرش المجيد – فعال لما يريد – الله من ورائهم محيط.]
كل ذلك نذر من الله تعالي، وفي وسط هذه الأمواج الهادرة، والعواصف الساخطة يوضع قوله (وهو الغفور الودود) ليكون بمثابة النسمة الحانية وسط هذه العواصف أو كما يقول المرحوم سيد قطب [ليظل الباب مفتوحاً لا يغلق في وجه عائد تائب و لو عظم الذنب وكبرت المعصية]
وقد تكون المغفرة هنا للمؤمنين والمؤمنات الذين قدموا أرواحهم فداءً لعقيدتهم لكن المغفرة هنا لها مذاق خاص ........ نعم،
فمن الناس من يغفر لهم رحمةً
ومنهم من يغفر له شكراً
ومنهم من يغفر لهم حلماً
أما هؤلاء الذين جادوا بأرواحهم وأقبلوا على النار تأكلهم، هم وأولادهم فلقد نالوا المغفرة حباً ومودة من الله تعالي.
وكأن دلالة المغفرة قد أحيطت بالحب والود وليس هناك كما أرى أعلى درجة من هؤلاء الذين غفرت لهم ذنوبهم حباً وكرامة من الله تعالي.
يقول المرحوم سيد قطب: [أما الودود – فيتصل بموقف المؤمنين الذين اختاروا ربهم على كل شيء.
وهو الإيناس اللطيف الحلو الكريم حين يرفع الله عباده الذين يؤثرونه ويحبونه إلى مرتبة يتحرج القلم من وصفها، لولا أن فضل الله يجود بها، ... مرتبة الصداقة: الصداقة بين الرب والعبد ..
ودرجة الود من الله لأودائه وأحبائه المقربين.
فماذا تكون الحياة التي ضحوا بها، وهي ذاهبة؟
وما يكون العذاب الذي احتملوه , وهو موقوت؟
ماذا يكون هذا إلى جانب قطرة من هذا الود الحلو؟
وإلى جانب لمحة من هذا الإيناس الحبيب؟ ......
ألا هانت الحياة وهان الألم وهان العذاب
وهان كل غال عزيز، في سبيل لمحة رضى يجود بها
المولي الودود ذو العرش المجيد]
ولعل هذه المعاني التي أفاض الله بها على الشيخ – رحمه الله – تجعلنا نميل إلى أن اسمه (الودود) هو فعول بمعني (فاعل ومفعول) في آن واحد فهو محب ومحبوب، وواد ومودود.
ولعل ذلك أيضاً جعل اسمه الودود يتأخر عن اسمه (الغفور) تبشيراً لهم بالقبول، ثم إيناساً لهم بالودود، فالمغفرة هنا مغفرة محب.
وليس الترتيب هنا ترتيب حدوث – فلا يقال غفر فأحب، ولكنه ترتيب عِلِّيِّه،
أي أنه: أحب فغفر.
خاتمة البحث أسأل الله-تعالى-حسنها
الحمد لله، بنعمته تتم الصالحات – سبحانه – هو الغفور الرحيم، والصلاة والسلام على صاحب الخلق العظيم، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإذا كان العيش في رحاب القرآن جميلاً كله فالعيش مع صفات الله أجمل، ويزداد الجمال بهاءً ونضارة حين تنحصر الدراسة في صفات تبث في النفس الأمل والطمأنينة؛ لأن النفس الإنسانية لقصورها تأنس كثيراً إلى صفات تطمئنها بالغفران، وتبشرها بجميل الإحسان، فما أحلى أن يتحقق الأمل حين يكثر الخطأ والزلل.
ومهما تكلمت عن سعادتي بهذا البحث الذي عشت معه وقتاً من عمري، بتكليف من أساتذتي-أجزل الله لهم المثوبة – فالألفاظ تتضاءل دون الوفاء بحق التعبير عن هذه السعادة، ولم لا؟ والبحث في أسماء الله.
¥