أما الشفاعة عند الله فليست كالشفاعة عند المخلوق، فالشفاعة عند الخالق: أن يكرم الله جل وعلا بعض عباده في أن يدعو لأحد المسلمين المستحقين للعذاب بسبب كبيرة ارتكبها، فيشفع عنده الشافع في أن يعفو عنه ولا يعذبه؛ لأنه مؤمن موحد، فيشفع الشافع عند الله جل وعلا بأن يعفو عنه، أو فيمن دخل النار في معصية فيشفع الشافع عند الله في أن يخرج ويرفع عنه العذاب، وهي ما تسمى بالشفاعة في أهل الكبائر.
لكن الشفاعة عند الله يشترط لها شرطان:
الشرط الأول: أن تكون بإذن الله، فلا أحد يشفع عند الله إلا بإذن، فهو الذي يأذن للشافع أن يشفع، أما من قبل أن يأذن فلا أحد يتقدم إلى الله عز وجل: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) [البقرة: 255]، وليس كالمخلوق الذي يتقدم الناس للشفاعة عنده وإن لم يأذن، فالله جل وعلا لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه.
الشرط الثاني: أن يكون المشفوع فيه من أهل التوحيد وأهل الإيمان، ممن يرضى الله عنهم قولهم وعملهم، (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) [الأنبياء:28]، أي: رضي الله قوله وعمله، وجاء الشرطان في قوله تعالى: (إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) [النجم:26]. أن يأذن الله هذا الشرط الأول، ويرضى هذا الشرط الثاني.
أما الكافر فإنه لا تنفعه الشفاعة (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) [المدثر:48]، (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) [غافر:18] فالشفاعة في القرآن شفاعتان؛ شفاعة منفية وهي التي انتفت شروطها، وشفاعة مثبتة وهي التي تحققت شروطها.
فالكافر لا تنفعه الشفاعة؛ لو شفع فيه أهل السماوات وأهل الأرض ما قبل الله فيه شفاعتهم؛ لأنه مشرك كافر بالله عز وجل، لا يرضى الله قوله ولا عمله، إلا ما جاء في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب، فهي شفاعة خاصة، وأيضاً ليست شفاعة من أجل خروجه من النار، إنما هي شفاعة من أجل تخفيف العذاب عن هذا الرجل؛ لما حصل منه من مؤازرة النبي صلى الله عليه وسلم وحمايته له –عليه الصلاة والسلام- والمدافعة عنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في تخفيف العذاب عنه فقط.
هذه هي الشفاعة الثابتة بشروطها، وهي أنواع:
منها أنواع خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأنواع مشتركة بينه وبين غيره من الأنبياء، والملائكة والصالحين والأفراط الذين ماتوا قبل البلوغ، كل هؤلاء يشفعون عند الله سبحانه وتعالى.
وأما الشفاعة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فهي أنواع:
أولها: شفاعته عليه الصلاة والسلام في أهل الموقف إذا طال الموقف يوم القيامة، واشتد الكرب، واشتد الزحام، ودنت الشمس من الرؤوس، وحصل الكرب العظيم، أهل المحشر يريدون من يشفع لهم لفصل القضاء بينهم وصرفهم من هذا الموقف: إما إلى جنة وإما إلى نار؛ فيذهبون إلى آدم عليه السلام فيعتذر لهيبة المقام وجلالته، ثم يذهبون إلى نوح عليه السلام أول الرسل فيعتذر، ثم يذهبون إلى موسى كليم الله فيعتذر، ثم يذهبون إلى عيسى عليه السلام فيعتذر أيضاً، ثم يذهبون إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: "أنا لها، أنا لها" ثم يأتي فيخر ساجداً بين يدي الله عز وجل، ويحمده ويثني عليه ويدعوه حتى يقال له: "ارفع رأسك، وسل تُعطه، واشفع تشفع" () بعد الدعاء والاستئذان، لا يشفع مباشرة، بل يسجد ويدعو ويثني على الله ويتوسل إليه بأسمائه وصفاته، ثم يؤذن له بالشفاعة، ثم يشفع للفصل بين الخلائق فيقبل الله شفاعته، ويأتي سبحانه وتعالى لفصل القضاء بين عباده، قال سبحانه: (كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً* وجاء ربك والملك صفاً صفاً) [الفجر:21،22] وقال سبحانه: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر) [البقرة:210].
هذه شفاعته عليه الصلاة والسلام في الفصل بين الخلائق، وهي مقام عظيم شرّف الله به النبي صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود الذي قال الله سبحانه فيه: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) [الإسراء:79]؛ لأنه يحمده عليه الأولون والآخرون، ويظهر فضله عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف العظيم.
الشفاعة الثانية: الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة ()، فأول من يستفتح باب الجنة هو محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أول من يدخلها ()، وأول من يدخلها من الأمم أمته عليه الصلاة والسلام.
¥