إن فوكاياما لم يقل بأن التاريخ كله قد انتهى بالفعل، وإنما أشار إلى ان نهايته التامة تأتي باعتناق الكل للفكر الليبرالي، وهذه بمثابة الحتمية عنده، وهاهو يتحدث عن الاتحاد السوفييتي السابق باعتباره الآن حبيساً في أحد مطبات التاريخ: "يستطيع الاتحاد السوفييتي السابق أن يخرج من موقعه التاريخي الحالي ليتدهور إلى وضع سابق تاريخياً، كما أن بامكانه أن يتبع ارشاد الغرب فيتقدم صعداً في خط التاريخ".
وأما بقية العالم غير الليبرالي، فينطبق عليه تماماً ما ينطبق على الاتحاد السوفييتي السابق، ولذا يستعجل فوكاياما جميع أقطار العالمين الثاني والثالث لتلحق بالعالم الأول الليبرالي وإلا فإن العالم لن ينعم بالسلام بسبب من بقايا الأيديولوجيات الراكدة تحت سقف التاريخ.
ولذلك يتهم فوكاياما دول العالم غير الليبرالي باشعال نار الحرب، كما يتهمها باستغلال الأيديولوجيا لغير ما غرض موضوعي. إذ لا توجد أي أيديولوجيا ـ باستثناء الليبرالية ـ تدافع عن مصالح الأفراد أو الأمم وليس فيما وراء الأيديولوجيا الا الدعوة للخراب.
إن وهن الأيديولوجيا الحالي يدعو للقضاء عليها سريعاً وتجاوزها، لا إلى التحاور أو التفاعل معها، أو إعطائها أية وجهة نظر ايجابية.
لاشك أن فوكاياما قد تجاوز بوهج الزهو بالانتصار الذي حققه الغرب على الاتحاد السوفييتي السابق، كل مقولات الآباء التأسيسيين لعلم السياسة الحديث أمثال سيمور مارتن ليبث ودانيال بيل وبيزنسكي، بل وصمويل هنتنجتون نفسه.
لقد لاحظ المفكران الأولان أن الأطروحة الرأسمالية قد راجعت نفسها كثيراً ونحت نحو اقتباس احتياطيات كثيرة من الفكر الاشتراكي لتقيد بها اقتصاد السوق، وكذلك فعل الأصلاحيون بالفكر الإشتراكي ليتبنى سوقهم بعض شروط اقتصاد السوق، قد لاحظ المفكران الأخيران في كتاب لهما صدر في عام 1964، أن أوجه التشابه بين النظامين الرأسمالي والإشتراكي ستكون أبرز خطوط مستقبل الحضارة الإنسانية، مع أنهما نفيا أي احتمال لاندماج النظامين المختلفين أو انهيار احدهما، لينتصر الآخر ويتوج تاريخ نضال الإنسان الفكري والسياسي على السواء، ولكن فوكاياما افتقد كل مرونة هؤلاء بحكمه الجزافي على كل الايديولوجيات بالفناء، وحكم لليبرالية بأن تصبح"الدين" البشري الأخير.
فرضيات النظرية:
وإنما تصبح الليبرالية نهاية التاريخ لأنها تسمح بتلبية كل حاجات الإنسان، إذ تسمح بالملكية الخاصة وتطويرها، وتشجع المبادرة الفردية، والمشاركة السياسية، وتحقق المساواة أمام القانون، ومن دفع الملكية الخاصة، والمبادرة الفردية، وحماية القانون، تكتمل سيطرة الإنسان بواسطة التكنولوجيا على مصادر الطبيعة، وتسود الرفاهية، ويتحرر الإنسان نهائيا من ربق الحاجة، وذل الفقر، كما تؤدي التكنولوجيا من ناحية أخرى إلى تشكيل الثقافة الإنسانية الجديدة التي توحد بين البشر عبر محيط العالم، وهي ثقافة عمادها هجر التعصب للايديولوجيات التي كانت أصل الشرور والحروب.
هذه الفرضيات التبسيطية كان يمكن قبولها لو آمنا أولاً أن حاجات النوع الإنساني حاجات مفهومة ومحددة المقدار، ولو آمنا ثانياً أنها حاجات متشابهة بمعنى أن البشر جميعاً يشتركون فيها بلا استثناء، ولو آمنا ثالثاً بأن تلك الحاجات قابلة فعلاً للإشباع، ولو آمنا أخيراً بأن الدول التي وصلت إلى سقف التاريخ، وهي الدول الليبرالية حسب توصيف فوكاياما، قد قدمت لنا دليلاً عملياً واحداً على ما سبق، أي لو أنها كفت عن سلوك الهيمنة والتطفل على ثروات الشعوب التي لم تصل بعد إلى حد التاريخ!
تناقضات النظرية
وهنا تسفر إحدى تناقضات نظرية فوكاياما، إذ يقرر أن تاريخ الإنسان يقوده نزوع الإنسان نحو التفوق والحصول على اعتراف وتقدير الآخرين، وذلك ما حصل عليه الإنسان الغربي بنضاله المستميت ضد الأيديولوجيا الإشتراكية حتى قهرها ونال ذلك الاعتراف الكبير .. يقول فوكاياما "إن حب الظهور والتفوق كان رائد كفاح الإنسان منذ فجر التاريخ، وقد ظل الإنسان يخوض المعارك حتى الموت ليظفر بذلك المجد المرموق. وقد أدت تلك المعارك إلى ظهور طبقة الأرستقراط المترفعة ذات القيم العليا، وكذلك طبقة العبيد التي منتهى أملها أن تسود المساواة بين البشر، لا أن تحصل على شرف التفوق والاعتراف". هذا التطلع البرجوازي نحو المجد يعدّه فوكاياما نبلاً وشوقاً روحياً يتعالى على المطالب المادية، ويضحي بهذه المطالب كما يضحي بالروح العزيزة حتى يتحقق ذلك المطلب العلوي العسير، وهذه هي الفضيلة الأساسية التي يميزها فوكاياما بين طبقة "الأحرار" وطبقة "العبيد" التي يضعها قريباً جداً من مرتبة "الأنعام والدواب"، ولكنه مع ذلك يعود ليمجّد) الليبرالية ـ منتهى التاريخ (لأنه ستخفف حدة هذا الصراع، وحدة تلك الفوارق السحيقة بتحقيقها لمطلب "العبيد" المقهورين في المساواة. وبعد ذلك فإن فوكاياما الذي يبشر بالليبرالية نهاية سعيدة للتاريخ، سرعان ما يفاجئنا بأفكار تصادم تلك البشرى.
وهاهو يبدي أسفه لأن الليبرالية تؤدي إلى خمود طموح السادة التواقين إلى المجد وإلى الخلود، وتهبط بهم إلى مدارك البشر العاديين، أي "العبيد"، وتجعل من الحياة برمتها متاعاً مادياً مجرداً من التطلع البعيد، ومن التوق إلى ذرى الروح، وهاهنا يعيش البشر جميعاً كحيوانات"لا تستثنى من ذلك الا عصابات الإجرام التي يجرؤ أفرادها على المخاطرة والتضحية بأرواحهم في سبيل حب الظهور وانتزاع اعتراف الآخرين ببطولاتهم وتميزهم على سائر القطيع". إن رتابة الحياة التي يجلبها نمط الحياة الليبرالية المرفهة ستؤدي مجدداً إلى اضمحلال حياة الإنسان، وقد تدفع به إلى أن يهبط من قمة هرم التاريخ إلى سفحه ليبدأ نضاله الشاق من جديد، وتلك واحدة أخرى من نقاط عدم الإتساق في نظرية فوكاياما عن نهاية التاريخ، ولكنها يمكن تفسيرها بنزوع صاحبها نحو التلفيق والتردد ما بين المطالب الدينية الأصيلة لأوغستين، والمطالب المادية التي صاغتها فلسفة عصر التنوير.
الشبكة الإسلامية
¥