ويلاحظ أن الثلاثة ـ ابن حزم، وابن القطان، وابن الصلاح ـ لم يخف عليهم أن أئمة النقد ربما ردوا ما ينفرد به الثقة استنكارا له، فأشار الثلاثة في معرض كلامهم إلى ذلك،وأنهم لم يرتضوه. ولا شك أن مخالفته أئمة النقد في قضية من صميم قضايا النقد يترتب عليها قبول و رد ما لا يحصى من الأحاديث أمر ليس بالهين، لا سيما لمن تصدى لجمع مصطلحاتهم وشرحها، ولهذا سلك أئمة آخرون مسلكا آخر في موقفهم من كلام أئمة النقد وهو مسلك التأويل، فلجأ هؤلاء إلى تفسير النكارة الواردة في كلام الأئمة الثقات بما لا يعارض تصحيحها وقبولها، فالنكارة معناها حينئذ على ما هي عليه في أصل اللغة: التفرد، فهو إذن وصفٌ كاشفٌ لحال الإسناد، لا حكمٌ عليه فوصف الإسناد أو الحديث بأنه منكر إذا كان راويه ثقة معناه أن راويه تفرد به، وهو مع ذلك صحيح.
قال النووي تعليقا على كلام الإمام مسلم الذي شرح به معنى الحديث المنكر (هذا الذي ذكر ـ رحمه الله ـ هو معنى المنكر عند المحدثين ـ يعني به المنكر المردود، فإنهم يطلقون المنكر على انفراد الثقة بحديث وهذا ليس بمنكر مردود، إذا كان الثقة ضابطا متقنا)
وقال ابن كثير (فإن كان الذي تفرد به عدل ضابط حافظ قبل شرعا، ولا يقال له منكر، وإن قيل له ذلك لغة) , واعتمد ابن حجر هذا كثيرا وخاصة في كلامه على الرواة , وأما بعد ابن حجر فصار هذا كالأمر المسلم به، لا يُناقش فيه.
وقد يبدو لأول وهلة أن المسلك الثاني هو الأسلم، لآن فيه تأويلا لكلام النقاد لا ردا له وعند التأمل فإن المسلك الأول أسلم بلا شك فهو نظر في كلام المتقدمين وتقرير له على حقيقته ثم مخالفته باجتهاد أخطأ أو أصاب، وأما المسلك الثاني فهو تقييد لكلام النقاد وقصر له على بعض أفراده، مع أن نصوصهم وأقوالهم تأباه، وذلك لأمور:
الأول: أن جعل النكارة في كلام النقاد على معنيين اصطلاحي بمعنى التضعيف والرد، ولغوي بمعنى التفرد ـ بعيد جدا، فكلامهم محمول على الاصطلاح، والتفريق يحتاج إلى دليل قوي، كيف والدليل يدل على نقيضه؟! فإن كلامهم على تفرد الثقة واستنكاره يصحبه في الغالب ما يشير إلى المراد، وهو رده وتضعيفه، كما في الأمثلة السابقة من المبحث الأول، إذ قد يسميه وهما أو خطأ أو يقول لا أصل له، ونحو ذلك.
والمتأمل في إطلاقهم لفظ (النكارة) وما تصرف منه مثل: حديث منكر و أحاديث مناكير واستنكر عليه و وأنكرت من حديثه وكان فلان ينكر عليه حديث كذا وذكرت له الحديث الفلاني فأنكره ونحو ذلك .. يدرك المقصود بها التضعيف والرد.ثم إن تمييز نوع النكارة في نصوص النقاد على قولهم هذا كيف يمكن ضبطه؟! إن رجع المر إلى درجة الراوي لم يكن للتفرد حينئذ كبير معنى، ونصوصهم تدل على أن في هذا النوع من النقد يدور عليه، على ان ربطه بدرجة الراوي يجعل الأمر مضطربا، فإن الراوي متى كان فيه توثيق معتبر أمكن أن يذهب ذاهب إلى تفسير النكارة في حديث استنكر عليه بأن المقصود بها التفرد لا التضعيف، وجوابهم عن هذا سيكون ضعفه ظاهرا.
الثاني: أن النقد بالتفرد لم يقتصر على لفظ (النكارة) فقد استعملوا فيه مصطلحات أخرى كثيرة، كالتعبير عنه بأنه حطأ، أو لا أصل له، أو باطل، أو لم يتابع عليه، ونحو ذلك، فهذه ألفاظ لا يمكن صرفها إلى معنى لغوي، فيحصل التناقض في معنى واحد، لمجرد أن النقاد عبروا عنه بألفاظ مختلفة من باب التنويع والتفنن.
الثالث: أطلق النقاد كثيرا على حديث الثقة إذا تفرد وخالف غيره من الثقات بأنه منكر، كما تقدمت الإشارة إليه، فما المانع أن يذهب من يرى قبول زيادة الثقة مطلقا إلى تفسير النكارة ههنا بالمعنى اللغوي فإنه موجود فيها، فيسقط بهذا التضعيف بالمخالفة؟!، وما كان جوابا عنه فهو أيضا جواب عن حمل الاستنكار في التفرد دون مخالفة على المعنى اللغوي.
وأما الشق الثاني في مخالفة المتأخرين لأئمة النقد في النظر إلى التفرد فهو (الجانب التطبيقي العملي)
¥