فيلاحظ هنا أن النقاد يستنكرون الحديث، ويبقى بعد ذلك أمر غير مؤثر عندهم، وهو البحث في عهدة الخطأ والنكارة، وهذا يعطي دلالة على أن الحكم على الحديث سابق على الحكم على الحكم على درجات الرواة، فالثاني فرع على الأول وليس ا لعكس.
وكان من المفترض أن يكون عمل المتأخرين ينصب على تأييد أقوال النقاد وتكميله، كأن يستنكر الناقد حديثا دون أن يذكر السبب، فيجتهد المتأخر في توجيه وبيان سبب النكارة وتحميل الخطأ، فيجتهد في الموازنة بين أقوالهم، واستبعاد ما يظر كونه مرجوحا.
فالاختلاف في عهدة النكارة في حديث (اللواط) الآنف الذكر يمكن للباحث أن يستبعد من الاحتمالات ما ذهب إليه الترمذي، فإن الحديث قد رواه جماعة عن عمرو بن أبي عمرو غير الدراوردي.
وكذلك في حديث أبي هريرة (متى كنت نبيا؟ ... ) الماضي قريبا، لم يتفرد به شجاع بن الوليد فقد رواه جماعة غيره عن الوليد بن مسلم.
وكذلك مما يمكن للمتأخر عمله أن ينظر في أحاديث وقع فيها تفرد ولم يجد للمتقدمين فيها كلاما ـ كما تقدم شرحه في المبحث الذي قبل هذا , غير أن المتأخر حمَّل نفسه فوق طاقتها ـ والله لا يكلف نفسا إلا وسعها ـ فانتصب للنقد مستقلا وسلك منهجا مغايرا بإدراك لذلك من بعضهم، ودون إدراك من البعض الآخر.
ومما يتعجب منه في عمل المتأخرين تناقضهم في موقفهم من أقوال النقاد إذ يعتمدون عليهم في درجات الرواة ويقلدونهم في ذلك ثم يدعونهم فيما يستنكرونه على هؤلاء الرواة، والقارىء يلاحظ ذلك في النص الواحد حين ينقلونه عن المتقدمين فحديث (اللواط) الآنف الذكر، وكذلك حديث عمرو بن أبي عمرو الآخر في (الواقع على بهيمة) .. وبعض الرواة رواه عنهما حديثا واحدا ـ سلك فيه المتأخرون ضروبا من مخالفة أئمة النقد في المنهج، في الاتصال والانقطاع وفي قضيتنا هذه قضية التفرد، وفي الشد والاعتضاد بالطرق الأخرى، وغير ذلك
وقد أشار السخاوي إلى هذا التناقض فإنه بعد أن ذكر منزلة أئمة النقد في الحكم على الأحاديث قال: وهو أمر يهجم على قلوبهم لا يمكنهم رده وهيئة نفسانية لا معدل لهم عنها، ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث ـ كابن خزيمة والإسماعيلي والبيهقي وابن عبد البر ـ لا ينكر عليهم بل يشاركهم ويحذو حذوهم وربما يطالبهم الفقيه أو الأصولي العاري عن الحديث بالأدلة هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والتجريح، كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله، ومن تعاطى تحرير فن غيره فهو متعنّي)
ورأيت بعض الباحثين المعاصرين جمع جرامزه فوثب وثبة ظن أنه بلغ فيها عنان السماء، وقدماه لم ترتفعا عن الأرض، إذ ذهب إلى نكارة حديث (اللواط) وأطال في النقول عن أئمة النقد، لكنه في نفس الكتاب الذي يحققه ذهب يقوي ما رواه عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس ومنها حديث (البهيمة)، وهو أشد نكارة من حديث (اللواط)، ثم كلام الإمام أحمد والبخاري يدل على أن أحاديث هذه النسخة كلها منا كير.
ومما يظهر تناقض كثير من المتأخرين في هذه المسألة أنهم يدفعون استنكار النقاد لبعض ما يرويه الثقات ومن في حكمهم، وفي المقابل عضّوا بالنواجذ على ما تقرر عند النقاد أن من أحاديث الضعفاء ما يترجح حفظهم له، معتمدين في ذلك على كلام النقاد، في كون ضعفهم غير شديد، فهم في درجة الاعتبار.
ولا بد من التسليم بان المتكلمين على الأحاديث من المتأخرين لا يشعرون بالتناقض في هذه المسألة وغيرها , فهم مخطئون معذورون، والله الموفق والهادي للصواب. ا. هـ