قال القرطبي المتوفى سنة 671 هـ في تفسيره (ج12ص9): "نسبة الخلق والتصوير للمَلَك نسبة مجازية لا حقيقية .. , ألا تَرَاهُ سبحانه قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية وقطع عنها نسب جميع الخليقة فقال: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) , وقال: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) , وقال: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة) .. , إلى غير ذلك من الآيات؛ مع ما دلت عليه قاطعات البراهين أن لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين, وهكذا القول في قوله (ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح) .. ؛ فإنه بإحداث الله تعالى لا بغيره .. , (و) لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوما (منذ يوم خلقه) , وذلك تمام أربعة أشهر .. , وقد قيل إنه الحكمة في عدة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر, وهذا .. يحقق براءة الرحم ببلوغ هذه المدة إذا لم يظهر حمل".< o:p>
والقول إذن بأن نفخ الروح لا يقع عند أربعة أشهر من عمر الجنين وإنما بعد أول أربعين, وأنه اكتشاف علمي حديث؛ لا يستند لأصل علمي صحيح ولا تحليل دلالي مطابق لنصوص الوحي, وفيه اعتراض على ما توارثه الأئمة جيلا بعد جيل وأيده العلم الحديث من اتضاح الحركة الإرادية للجنين في أربعة أشهر كعلامة محسوسة للتغير المعبر عنه بنفخ الروح, وأما دفع توهم امتداد أطوار التخليق لأربعة أشهر فقول صحيح؛ لاكتمال جميع أوليات الأعضاء عند نهاية ثمانية أسابيع بيقين. < o:p>
والتعبير: "إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة"؛ قد يوهم أنها تستمر أربعين ليلة بهيئة نطفة, ولكن توجد روايات ترفع الوهم, والتعبير مثلا: "بعدما تستقر في الرحم بأربعين"؛ يجعل الأربعين فترة استقرار الجنين بالرحم منذ كان بهيئة نطفة, وبالمثل يُمكن حمل الروايات التي توهم توزيع الأربعة أشهر على أطوار ثلاثة لكل منها أربعين يوما على أخرى ترفع الوهم, وفي رواية البخاري عن عبد الله بن مسعود: "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق؛ قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً يؤمر بأربع كلمات, ويقال له: اكتب عمله ورزقه وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح) ", وفي رواية مسلم عن عبد الله ابن مسعود أيضا بزيادة (في ذلك): "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق؛ قال: (إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح .. "؛ يستقيم حمل (جمع الخلق) على تنادي الأجزاء لتكوين الأعضاء فينشأ كل طور بعد آخر بنفس الكيفية؛ أي (مثل ذلك) الجمع, ويمكن بالمثل حمل (في ذلك) على الزمن, أي في نفس الأربعين؛ خاصة لعدم ذكر للنطفة وبيان منحها حصة, وحينئذ يزول الإشكال.< o:p>
والأصل عند المحققين إذا تعذر التأويل حمل الظَنِّي المُتشابه اللفظ على الجلي المطابق للواقع, وتوهم امتداد الأطوار لأشهر أربع تدفعه رواية حذيفة بن أسيد: (إذا مرّ بالنُّطفة سنتان وأربعونَ ليلةً) الحديث؛ وفيه تقع كل أطوار بدايات الأعضاء (نطفة وعلقة ومضغة) عند 42 ليلة (ستة أسابيع)؛ وتتكون بالفعل بدايات العظام في الأسبوع السابع والعضلات في الثامن, وفي رواية عن ابن مسعودٍ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ النطفةَ إذا استقرَّت في الرَّحمِ تكونُ أربعينَ ليلةً ثم تكونُ علقةً أربعينَ ليلةً ثمَّ تكون مضغة أربعين ليلة ثم تكونُ عظاماً أربعين ليلةً ثم يكسو الله العظامَ لحماً", قال ابن رجب الحنبلي المتوفى سنة 795 هـ في جامع العلوم والحكم (ج6ص8): "رواية الإمام أحمد (هذه) تدلُّ على أنَّ الجنين لا يُكسى اللَّحمَ إلاَّ بعد مئةٍ وستِّين يوماً, وهذه غلطٌ بلا ريبَ فإنَّه بعد مئة وعشرينَ يوماً يُنفخُ فيه الرُّوحُ بلا ريب .. , وعلي بنُ زيدٍ هو ابنُ جُدْعان لا يحتجُّ به, وقد ورد في حديث حذيفة بن أسيدٍ ما يدلُّ على خلقِ اللَّحمِ والعِظام في أوَّلِ الأربعين الثانية, ففي صحيح مسلم عن حُذيفة بن أسيدٍ عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قال: (إذا مرّ بالنُّطفة سنتان وأربعونَ ليلةً بعثَ الله إليها
¥