(فَصْلٌ): ومن عقوباتها أنها تؤثر بالخاصة في نقصان العقل فلا تَجدُ عاقِلين أَحَدهما مُطِيعٌ والآخرُ عاصٍ إِلا وَعَقْلُ المطيع منها أَوْفَرُ وأَكْمَلُ وفِكْرُهُ وَرَأَيُهُ أَسَدُّ والصوابُ قَرِينه.
ولِهَذا تِجَدُ خِطاب القُرآن إنما هو مَعَ أولى الألباب والعقول كقوله: ? وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ? وقوله: ? فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ? وقوله: ? إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ? ونظائر ذلك كثيرة.
وكيف يكون عاقلاً وَافِرَ العقل مَن يَعصِي مَن هو في قبضته وفي داره وهو يعلم أنه يراه ويشاهده فيعصيه، وهو بعينه غير متوار عنه ويستعين بنعمه على مَسَاخِطه ويَستدعِي كل وقت غَضَبَه عليه ولَعْنَتَهُ له وإِبعادَهُ مِن قُرْبِهِ، وطَرْدهُ من بابه وإعراضَه عنه وخذلانَه له والتخليةَ بينه وبين نفسه وعدوه وحرمانه من رضاه وحبه، وقرة العين بقربه والفوز بجواره والنظر إلى وجهه في زمرة أوليائه إلى أضعاف ذلك مِن كرامة أهل الطاعة وأضعاف أضعاف ذلك مِن عقوبة أهل المعصية.
شِعْرًا يَا ذا الذي حَمَّلَهُ جَهْلُهُ
(مِن الْمَعَاصِي فَوْقَ ما يَقْوَى
(البَسْ مِنْ التَّوْبَةِ دِيباجةً
(مُعْلَمَةً بالنُسْكِ والتَقْوَى
(واعْلَمْ بأنْ لَسْتَ تُرَى نَاجِيًا
(إِنْ لَمْ تُطِعْ مَنْ يَعْلم السِّرَ والنَّجْوى
(آخر:
قِفَا نَبْكي مِن عظمِ الذُنُوبِ وَفتكِها
(وَتَضْيِيْعِنا الأَوقات في غَيْر وَاجِبِ
(ونَسْتَدْركُ الماضِي بِتَوبَةِ صَادِقٍ
(وَنَسْتَقْبِل الآتِي بِجِدِّ المُوَاضِبِ
(وَنَعْمَلُ أَعْمَالاً حِسَانًا لَعَلّهَا
(تُكَفِّرُ عَنَّا مُفْضِعَات المَعَائِبِ
(
آخر: إِذَا المَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ لِبَاسًا من التُقَى
(تَقَلَّبَ عرْيَانًا وَإِنْ كَانَ كَاسِيًا
(وَخَيْرُ خِصَالِ المرءِ طَاعَةُ رَبِهِ
(ولا خَيْرَ في مَنْ كَان لِلَّهِ عَاصِيًا
(فأي عقل لمن آثر لذة أو يوم أو دهر ثم تنقضي كأنها حلم لم يكن على هذا النعيم المقيم والفوز العظيم؟ بل هو سعادة الدنيا والآخرة.
ولولا العقل الذي تَقُوم عليه به الحجة لكان بمنزلة المجانين، بل قد يكون
المجانين أحسن حالاً منه وأسلم عاقبة، فهذا مِن هذا الوجه.
وأما تأثيرها في نقصان العقل المعيشي فلولا الاشتراك في هذا النقصان لَظَهَرَ لِمُطِيعِنَا نُقْصَانُ عقل عاصينا، ولكن الجائحة عامة، والجنون فنون.
ويا عجبًا لو صَحَّتِ العُقُولُ لَعَلمت أَنَّ الطرِيقَ الذي يحصل به اللذةُ والفرحةُ والسرورُ وطيّبُ العيشِ إنما هو في رضاء مَن النعيمُ كُلُه في رِضَاه والألمُ والعذابُ كله في سَخَطِهِ وغَضَبِهِ.
ففي رضاه قرةُ العيون، وسرورُ النفوس، وحياةُ القلوب، ولَذَّةُ الأرواح، وطِيبُ الحياةِ ولذةُ العَيشِ وأَطْيَبُ النعيم ممَّا لَو وُزنَ منه مثقالُ ذَرةٍ بنعيم الدنيا لم تَفِ بِهِ بل إذا حَصلَ لِلقلْبِ مِن ذلكَ أَيْسَرُ نَصِيبٍ لم يَرْضَ بالدنيا وما فيها عَوضًا منه.
ومَعَ هذا فهو يَنْعَمُ بنَصِيبِهِ أَعْظَمُ مِن تَنَعُّم المترفين فيها، ولا يَشُوبُ تَنَعُّمهُ بذلك الحظِ اليسيرِ ما يشوبُ تَنَعُمُّ المترفين مِن الهموم الغموم والأحزانِ والمعارضاتِ، بل قد حَصَلَ على النعيمين وهو ينتظر نعيمين آخرين أعظم منهما. انتهى.
لِلَّهِ قَومٌ أَطَاعُوا الله خَالقَهُمْ
(فآمَنُوا واسْتَقامُوا مِثْلَ ما أَمروا
(والوَجُدُ والشوقُ والأفْكارُ قُوتُهمُوا
(ولازَمُوا الجِد والادْلاجَ في البُكَرِ
(
آخر إِذا ما كَسَاكَ لله سِرْبَاك صِحَّةٍ
(وَلَمْ تَخْلُ مِنْ قُوتًا يَحِلٌ ويعذُبُ
(فلا تَغْبِطَنَّ المُتْرَفِينَ فَإِنَّهُمْ
(بِمِِقْدَارِ مَا يُكْسُونَ في الوْقَتِ يُسْلَبُ
(آخر:
أَفادَتْني القَنَاعَةُ كُلَّ عِزٍ
(وَأَيُّ غِنىً أعَزَ مِنَ القَنَاعَةْ
(فَصَيِّرْهَا لِنَفْسِكَ رَأْسَ مَالٍ
(وصَيّرْ بَعْدَهَا التَّقْوى بضَاعَةْ
(تَحُزْ رِبْحَيْنِ تَغْنَى عن بَخِيلٍ
(وتَنْعَمُ في الجِنَانِ بِصَبْرِ سَاعَةْ
(
آخر أَخَصُّ الناس بالإِيمانِ عَبْدٌ
(خَفِيفُ الحَاذِ مَسْكَنُهُ القِفَارُ
(لَهُ في اللِّيْلِ حَظٌ مِن صَلاةٍ
(ومِن صَوْمٍ إِذَا جَاءَ النَّهَارُ
(
وقُوتُ النَفسِ يَأتِي في كَفَافٍ
¥