وَكَتَبَ وَهْبُ بنُ مُنَبه إلى مكحول: إنكَ امرؤٌ قَدْ أصبْتَ بِما َظَهر مِن عِلْمِ الإِسْلام شَرفًا فَاطْلُبْ بِمَا بَطَنَ مِنْ عَلْمِ الإِسْلام مَحَبَّةً وَزُلْفىَ. وفي رواية أنه كَتَبَ إليه: أنكَ قد بَلَغْتَ بظاهرِ عِلْمِكَ عِنْدَ النَّاس مَنْزلةً وَشَرفًا فَاطُلب بباطِنِ عِلمكَ عندَ الله منزلةً وزُلْفَى. وَاعلم أَنَّ إِحْدَى الْمَنْزِلَتَيْنِ تَمنعُ مِن الأخُرْى.
فأشارَ وَهْبَ بِعلمِ الظاهرِ إلى علمِ الفَتَاوي والأَحْكَامِ، والحلالِ والحرام، والقصصِ والوعظِ وهو مَا يظهُر على اللسان، وهذا العلمُ يوجَبُ لِصَاحِبهِ مَحبة الناسِ لَهُ وَتَقَدُّمُه عندهم فَحَذَّرَهُ من الوقوفِ عندَ ذلكَ والركون إليهِ والالتفاتِ إلى تعظيمِ الناس ومحبتهم فإن مَن وَقَفَ مَعَ ذلك فقد انقطعَ عن الله وانْحَجَبَ بنظرهِ إلى الخلقِ عن الحق.
وأَشَاَر بعلمِ الباطنِ إلى العِلم الذي يُبَاشرُ الْقُلوبَ فيحدِثُ لها الخشيةَ والإجْلالَ والتعظيمَ، وأَمَرهُ أَن يَطْلُبِ بهذا المَحبةَ مِن الله والقربَ مِنهُ والزُلْفَى لَدَيه.
وكان كثيرٌ مِن السلفِ كَسُفْيَانِ الثوري وغيره يُقَسِّمُونَ العلماءَ ثلاثةَ أقسام: عالمٌ بالله وعالمٌ بأمرِ الله ويُشِيرُون بذلكَ إلى مَن جَمَعَ بَيْنَ هَذَين الْعَلْمَيْنِ الْمُشَارُ إليهما: الظاهر والباطنِ.
وهؤلاءُ أشرفُ العُلماء وهم المَمدُوحُونَ في قوله تعالى: ? إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ?، وقَالَ: ? إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً ? إلى قوله: ? وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ?.
وقَالَ كثير من السلف: ليس العلم كثرةُ الرواية ولكن العلمُ الخشيةُ. وقَالَ بعضهُم: كَفَى بِخَشَيةِ الله عِلْمًا وكفَى بالاغترار بالله جَهْلاً. ويَقُولُون أيضًا: عالمٌ بالله ليس عالم بأمر الله وهُم أصْحَابُ العِلم الباطن الذين
يَخْشَونَ الله ولَيْسَ لَهم اتِّساعٌ في العلم الظاهر.
ويَقُولَونَ: عالمٌ بَأمرِ الله ليسَ بِعَالِمٍ بالله، وهم أصحابُ العلم الظاهر الذينَ لا نَفَاذَ لهَمُ في العلمِ الباطنِ وليس لهم خَشْيَةٌ وَلا خُشُوعٌ، وهؤلاءِ مَذْمُومُونَ عِند السلفَ. وكان بعضهُم يقول: هذا هو العلم الفَاجِرُ.
وهؤلاء الذينَ وَقَفُوا مَعَ ظاهرِ العِلمِ ولم يصل العلمُ النافعُ إلى قلوبهم ولا شَمُوا لَهُ رَائِحَتَهُ غَلَبَتْ عَلَيْهم الغفلةُ والقَسوةُ والأعراضُ عن الآخرة والتنافُسُ في الدنيا ومحبةُ العُلوِ فيها والتقدم بينَ أَهلها.
وقد مُنعوا إحْسَانَ الظن بِمَنْ وَصَلَ الْعِلمُ النَّافعُ إلى قلوبهم فلا يُحبونهم ولا يُجالِسونهم وربما ذَمُّوهُم وقَالَوا: ليسوا بعلماء، وهذا مِن خداع الشيطان وغرُورُه لِيَحْرِمَهم الوصولَ إلى العلم النافعِ الذي مدحه اللهُ ورسولهُ وسلفُ الأمة وأئمتها.
ولهذا كانَ علماءُ الدنيا يُبغضُون علماءَ الآخرة وَيَسْعَونَ في أذاهم جُهْدَهُم كما سَعَوا في أذَى سَعيدِ بن المسيب، والحسنِ، وسفيان الثوري، ومالك، وأحمد وغيرهم من العلماء الربانيين.
وذلك لأن علماءَ الآخرةِ خلفاءُ الرسل وعلماءَ السوءِ فيهم شبهٌ مِن اليهود وهم أعداءُ الرسلِ وقتلة الأنبياء ومَن يأمر بالقسطِ من الناس، وهم أشدُ الناس عَدَاوَةً وحسدًا للمؤمنين.
وَلِشِدَّةِ مَحبتهم للدنيا لا يُعظمُون علمًا ولا دِينًا وإنما يُعَظِمُونَ المالَ والجاهَ والتقدمَ عند الملوكَ.
إِذَا الْعِلْمُ لَمْ تَعَمَلْ به كان حُجَّةً
(عَلَيْكَ وَلَمْ تُعْذَرْ بِمَا أَنْتَ حَامِلُ
(فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَبْصَرْتَ هَذَا فَإِنَّمَا
(يُصَدِّقُ قَوْلَ الْمَرْءِ مَا هُوَ فَاعِلُ
(آخر:
قالوا فلانٌ عالمٌ فاضلٌ
(فأكرمُوهُ مثلما يَرْتضي
(
فقلتَ لما لمْ يكنْ ذا تقىً
(تَعَارَضَ المانعُ والمقتضي
¥