ولو عَلِمَ هَؤلاءِ أنَّ المَلائكةَ تَصْعدُ بصلاتهمْ فتَعرضُها على الرّبِّ جلَّ وعلاَ بمنْزِلةَ الهَدَايَا التِّي يتقرّبُ بِهَا النّاسُ إلى مُلوكِهمْ وكُبرائِهم، فليسَ مَنْ عَمِدَ إِلى أَفْضلِ مَا يَقْدرُ عليهِ فَيُزَيّنه، ويُحسّنهُ، ما استطاعَ ثم يَتَقَرَّبُ به إلى مَنْ يَرجُوهُ، وَيَخَافُه، كَمَنْ يَعْمِدُ إلى أَسْقَطِ مَا عِنْدَهُ وَأهونِهِ عليهِ فَلْيَسْتَرِيح مِنْه وَيَبْعَثه إلى مَنْ لاَ يَقَعُ عِنْدَهُ بِمَوْقِع.
وَليسَ مَنْ كَانَتْ صَلاَتُهُ رَبيعًا لِقَلْبِهِ، وَحَياةً لَهُ، وَرَاحَةً وَقُرَّةً لِعَيْنِهِ، وَجَلاَءً لِحُزْنِهِ وَذَهَابًا لِهَمِّهِ وَغَمِّهِ، وَمَفْزَعًا لَهُ في نوائِبِهِ وَنوَازِلِهِ، كَمَن هِي سِجْنٌ لِقَلْبِهِ، وَقَيْدٌ لِجَوَارِحِهِ، وَتَكْلِيفٌ لَهُ، وَثقلٌ عَلَيهِ، فَهِيَ كَبِيرَةٌ عَلَى هَذَا وَقُرَّة عَينٍ وَرَاحَةٌ لِذَلِكَ.
وَقَالَ تعالى: ? وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ? فإنمَّا كبُرَت على غير هؤلاء لخُلُّو قُلُوبهم مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ تعالى وَتْكبِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ
والخُشُوعِ لَهُ وَقِلَّةِ رَغبَتِهِمْ فيهِ فَإنَّ حُضُورَ العَبْدِ في الصَّلاةِ وَخُشُوعُهُ فِيهَا وَتَكْمِيلُهُ لَهَا واسْتِفْرَاغُهُ وُسْعَهُ فِي إِقَامَتِهَا وَإِتْمَامِهَا عَلَى قَدْرِ رَغْبَتِهِ في اللهِ.
قَالَ الإمامُ أحمدُ: في رواية مُهَنَّا بن يَحْيَى: إِنَّمَا حَظُّهُمْ مِنَ الإسلامِ عَلى قدرِ حَظهمِ مِنَ الصلاةِ، وَرغبتهِم في الإسلامِ عَلى قدر رغبتِهِم في الصلاةِ فَاعْرَفْ نَفْسَكَ يَا عَبْدَ اللهِ وَاحْذَرْ أَنْ تَلْقَى اللهَ عزَّ وَجلَّ وَلاَ قَدْرَ لِلإسْلامِ عِندَكَ فَإنَّ قَدْرَ الإِسْلامِ في قَلْبِكَ كَقَدْرِِ الصَّلاةِ في قَلْبِكَ.
(فصل)
فأما صُورتُها الظاهرة في القيام والقراءة ُوالركوعُ والسجودُ وَنحو ذلك مِن وظائف الصلاة الظاهرة.
وأما حقيقتُها الباطنةُ فمِثلُ الخشوع والإخباتِ وحُضُورِ القلبِ وكمال الإخلاصِ.
مَنْ لَمْ يَكُنْ مُخْلِصًا لِلهِ في العَمَلِ
(فَلَيْسَ يَنْفَعُهُ قَوْلٌ وَلاَ عَمَلُ
(والتدبر والتفهم لمعاني القراءة ومعاني التسبيح ونحو ذلك من وظائف الصلاة الباطنة.
فظاهر الصلاة حفظ البدن والجوارح وباطن الصلاة حفظ القلب.
ومن المحافظة على الصلاة والإقامة لها كمال الطهارة والاحتياط في البدن والثوب والمكان.
قال عليه الصلاة والسلام: «الطهور شطر الإيمان» وفي الحديث الآخر: «الطهور مفتاح الصلاة وإسباغ الوضوء وتثليثه من غير وسوسة ولا إسراف».
فإن الوَسْوَسَةَ في الطهارة والصلاة من عمل الشيطان يُلَبِّسُ بها على مَن ضَعُف عقلهُ وقَلَّ علمه.
وقد وردت الأحاديث الصحيحة: «أن مَن توضأ فَأَحْسَنَ الوضوء خَرجَتْ خطاياه مِن أعضائه ودخل في الصلاة نقيًا من الذنوب».
ومن المحافظة على الصلاة والإقَامَة لها المبادرة بها في أول مَوَاقِيتها وفي ذلك فضلٌ وأجر عظيم.
وهو دليل على محبة العبد لربه وعلى المسارعة في مرضاته ومحابه قال ?: «أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله».
وقبيح بالمؤمن العاقل أن يدخل عليه وقت الصلاة وهو على شغل من أشغال الدنيا فلا يتركه ويقوم إلى فريضة الله التي كتبها الله عليه فيؤديها.
وما يفعل ذلك إلا من عظمت غفلته وقلَّت معرفته بالله وعظمته وضعُفتْ رَغبته فيما أعَدّ الله لأوليائه في الدار الآخرة.
وأما تأخيرها عن وقْتها فلا يَجُوزُ وفيه إثم عظيم.
ومِن المحافظة على الصلاة والإقامة لها: الخشوع وحُضور القلب وتدبرُ القِراءة وفهمُ مَعَانيها واسْتشعارُ الخُضُوعِ والتواضُعِ لله عند الركوع والسجود.
وامْتِلاَءُ القلب بتعظيم الله وإجلاله وتقديسه عند التكبير والتسبيح وجميع أجْزَاءِ الصلاة.
والحرص والاجتهاد في دفع الخواطر والهواجيس في شؤون الدنيا والإعراض عند حديث النفس في ذلك.
ويكون همه في الصلاة وحُسنُ تأدِيتِهَا كما أمر الله. فإن الصلاة مع الغفلة وعدم الخشوع والحضور قليلة الجدْوَى.
¥