وَقَدْ قَالَ تَعَالى مُنْكِرًا عَلَى هَذَا الضَّرْبَ مِنَ النَّاسِ وَمُقَرِّرًا ابْتِغَاءَهم أَحْكَامَ الْجَاهِليةِ وَمُوَضِّحًا أَنَّهُ لا حُكْمَ أَحْسَنُ مِنْ حُكمِهِ: ? أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ?.
فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الآيةُ الكريمة وَكَيفَ دَلَّتْ أَنْ قِسْمَةَ الْحُكْمِ ثُنَائِيَّةْ وَأَنَّهُ لَيْسَ
بَعْدَ حَكْمِ اللهِ تَعَالى إلا حُكْمَ الْجَاهِليةَ الْمُوضِّحُ أَنَّ القَانُونِيُّينَ في زُمْرَةِ أَهْلِ الْجَاهِلَيةَ شَاءوُا أَمْ أَبَوا بَلْ هُمْ أَسْوَأُ حَالاً مِنْهُمْ وَأَكْذَبُ مِنْهُم مَقَالاً ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِليةِ لا تَنَافُسَ لَدَيْهم حَولَ هَذَا الصَّدَدْ.
وَأَمَّا القَانُونِيُّونَ فَمُتَنَاقِضُونَ حَيْثُ يَزْعُمُونَ الإِيمَانَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسولُ ? وَيُنَاقِضُونَ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، وَقَدْ قَالَ اللهُ في أمْثَالِ هَؤُلاءِ: ? أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ?.
ثُمَّ انْظُر كَيْفَ رَدَّتْ هَذِهِ الآيَةُ الكريمةُ على القَانُونِيَّينَ ما زَعَمُوُهُ مِنْ حُسْنِ زُبَالةِ أَذْهَانِهِمْ وَنُحَاتَةِ أَفْكَارِهِمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: ? وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ?.
قَال الحَافِظُ بن كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ هَذِين الآية: يُنْكِرُ تَعَالى عَلى مَنْ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ اللهِ الْمُشْتَمِلُ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ النَّاهِي عَنْ كُلِّ شَرٍّ وَعَدلَ إلى مَا سِوَاهُ في الآرَاءِ وَالأَهْوَاءِ وَالاصْطِلاحَاتِ التِي وَضَعَها الرِّجَالُ بِلا مُسْتَنَدٍ مِنْ شَرِيعَةِ اللهِ كَمَا كَانَ أَهْلُ الجاهِليةَ يَحْكُمونَ بِهِ مِنَ الضَّلالاتِ وَالْجَهَالاتِ مِمَّا يَضَعُونَهُ بآرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ وَكَمَا يَحْكُمُ بِهِ التَّتَارُ مِنْ السِّيَاسَاتِ الْمَلَكِيّةِ التِي يُقَدّمُونَها عَلَى الْحُكْمِ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّة رَسُولِهِ ?.
فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ يَجِبُ قِتَالَهُ حَتَّى يَرْجَعُ إلى حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَلا يُحَكِّمُ سِوَاهُ في قَلِيلٍ وَلا كَثيرٍ قَالَ تَعَالى: ? أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ? وَعَنْ حُكْمِ اللهِ يَعْدِلُونُ ? وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ?، أيْ: وَمَنَ أَعْدَلُ مِن اللهِ في حُكْمِهِ لِمَنْ عَقَلَ مِنْ اللهِ شَرْعَهُ وآمَنَ بِهِ وَأَيقَنَ وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ مِنْ الوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا فَإِنَّهُ تَعَالى العَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ العَادِلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وَقَالَ تَعَالى: ? وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ?،
? وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ?، ? وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ?.
فَانْظُرْ كَيْفَ سَجَّلَ تَعَالى عَلَى الحَاكِمِينَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهِ بالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالفِسْقِ وَمِنَ الْمُمْتَنَعِ أَنْ يُسَمِّي اللهُ سُبْحَانَهُ الحاكِمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ كَافِرًا وَلا يَكُونُ كَافِرًا بَلْ هُوَ كَافر مُطْلَقًا إِمَّا كُفْرُ عَمَلٍ وَإِمَّا كُفْرُ اعْتِقَاد.
وَمَا جَاءَ عَنْ ابنِ عَبَّاسٍ في تَفْسِير هَذِهِ الآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الحَاكِمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ كَافِرٌ إِمَّا كُفْرُ اعْتِقَادٍ نَاقِلٍ عَنْ الْمِلَّةِ وَإِمَّا كُفْرُ عَمَلٍ لا يَنْقُلِ عَنْ الْمِلَّةِ.
¥