إذاً فنحن مأمورون أمر إيجاب باتباع سبيل المؤمنين، يعلم وجوب ذلك من آخر الآية، حيث علق الله مصير من خالف سبيل المؤمنين إلى النار، وهذا لا يكون إلا بسبب ترك فرض من الفرائض الشرعية وهذا واضح، وخلاصة القول، إن كل داع سواء عظم فهمه أو قلّ فلا يجوز له أن يدعو إلى الكتاب والسنة إلا بفهم السلف الصالح -رضوان الله عليهم أجمعين- وبدون فهم الكتاب والسنة عن طريق السلف فإننا لا نستطيع حينئذ أن نرد على المبتدعة والضالين، ونعطي مثالاً على ذلك، إنه من المعلوم ومقرر في عقيدة أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وقد تواترت على ذلك أقوالهم -رحمهم الله- ولكن ظهر جماعة من المبتدعة الزائفة وادعوا أن القرآن مخلوق واحتجوا لذلك بقوله تعالى:
] إنا جعلنه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون [().
وقالوا معنى جعلناه، أي خلقناه، وقد رد عليهم أهل السنة وبينوا أن هذه اللفظة في القرآن وهي (جعل) تأتي أحياناً بمعنى الخلق وأحياناً بمعنى التصيير كقوله تعالى عن إبراهيم -عليه السلام-
] ربنا واجعلنا مسلمين لك [()
والمقصود أن السلف ردّوا هذه الشبهة الواهية ولكن مقصودي من سياق هذا المثال هو التوضيح أن كل مبتدع يدّعي أنه يدعو إلى الكتاب والسنة ويحتج لبدعته بأدلة من الكتاب والسنة، فهكذا إذا أردنا أن ندع إلى الكتاب والسنة بدون فهم السلف الصالح، فيضيع فهم الكتاب والسنة وتتضارب الأدلة الشرعية ولا يعرف الحق من الباطل، ولا يميز الداعي إلى السنة من الداعي إلى البدعة، فلا بد لأي داع سواء كان في القرون السابقة أو الحاضرة أو القادمة أن تكون دعوته مبنية على ما كان عليه السلف الصالح -رضي الله عنهم أجمعين-.
والحمد لله رب العالمين.
شبهة وجوابها
ولكن قد يرد على ما قدمت من وجوب اتباع السلف ما يقال في وقتنا الحاضر من بعض أفراد المسلمين، ألا وهو كيف يلزمنا الدعوة إلى الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح مع أن السلف اختلفوا في أكثر مسائل الفقه؟!
فأقول إن هذه شبهة تثار في زماننا الحاضر، وإنما الغرض منها التنصل مما صرح به السلف الصالح في عقائدهم فالذي يتأول الأسماء والصفات مثلاً على غير مرادها، يقول له المعارض كيف تقول هذا مع أن السلف الصالح -رضي الله عنهم- ومنهم الصحابة الكرام لم يقولوا هذا الذي قلته، ولا تأولوا ما تأولته أنت؟! أثبتوا ما نقلوه بدون تأويل.
فنلزمه بذلك، فلا يجد هذا المتأول مخرجاً إلا أن يقول إن السلف اختلفوا في كثير من المسائل، فكيف تأمرني أن ألتزم بمذهب السلف في العقائد؟!
والجواب في هذه المسألة واضح إن شاء الله ولا بأس من تفصيله رداً لهذه الشبهة.
فأقول إن الآية التي سقناها فيما تقدم من وجوب اتباع سبيل المؤمنين إنما المقصود منها اتباع ما اتفق عليه سبيل المؤمنين، وأما ما اختلفوا فيه فلا مجال للإلزام به ببعض آراء الرجال، فلا يجوز مثلاً أن نلزم الأمة باتباع إسحاق بن راهويه، أو أحمد بن حنبل، أو غيرهم من أهل العلم في مسألة اختلف فيها السلف الصالح -رضي الله عنهم أجمعين- لأن المخالف -حينئذ- لأحمد بن حنبل -مثلاً- لم يصير مخالفاً لسبيل المؤمنين، إذ أن الآية لم يتحقق وقوعها عندئذ على المخالف، فعند خلاف السلف في مسألة ما نقول إن سبيل المؤمنين عندئذ هو خلافهم في المسألة الفلانية، وأما ما اتفق عليه السلف فسبيل المؤمنين حينئذ هو اتفاقهم الذي لا يجوز مخالفته أبداً، ونعطي مثالاً: وقع الخلاف بين السلف في حكم قراءة المأموم للفاتحة، فهنا سبيل المؤمنين اختلافهم في قراءتها ووجوبها على المأموم، فلو قال قائل مثلاً إنه يجب علينا إلزام الناس على قراءتها أو عدم قراءتها.
فنقول: إن هذا القائل قد خالف سبيل المؤمنين لأن هذا الإلزام منه لم يعمل به السلف ولو كان خيراً لسبقونا إليه "وهذا بشرط ما لم يكن الدليل صريحاً لا يحتمل التأويل فإن كان صريحاً وجب على الجميع العمل به، ويعذر تاركه بأن يكون متأولاً أو لعل الدليل لم يبلغه أو لم يعلم صحته.
¥