ثم بدأ الإمام يوضح هذه الأقسام حتى عد القسم الثالث وهو مدار بحثنا فقال: "والقسم الثالث أن لا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على حال فهو أشد مما قبله والأدلة المتقدمة جارية هنا بالأولى وما توهم المتأخرون منه أنه دليل على ما زعموا ليس بدليل عليه البتة إذ لو كان دليلاً عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارض له ولو كان ترك العمل فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين وكل من خالف الإجماع فهو مخطئ وأمة محمد http://www.binatiih.com/go/images/smiles/salla.gif لا تجتمع على ضلالة فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنة والأمر المعتبر وهو الهدى وليس ثم إلا صواب أو خطأ فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ، وهذا كاف والحديث الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جار هذا المجرى.
ومن هناك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي http://www.binatiih.com/go/images/smiles/salla.gif نص على علي أنه الخليفة بعده لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدم اعتباره لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ وكثيراً ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة يحملونها مذاهبهم ويغبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة ويظنون أنهم على شيء.
ولذلك أمثلة كثيرة: كالاستدلالات الباطنية على سوء مذاهبهم بما هو كثير في النقل عنهم وسيأتي منه أشياء في دليل الكتاب إن شاء الله واستدلال التناسخية على صحة ما زعموا بقوله تعالى:
] في أي صورة ما شاء ركبك [()
وكثير من فرق الاعتقادات تعلق بظواهر من الكتاب والسنة في تصحيح ما ذهبوا إليه مما لم يجر له ذكر، ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين، وحاش لله من ذلك، ومنه أيضاً استدلال من أجاز قراءة القرآن بالإدارة وذكر الله برفع الأصوات وبهيئة الاجتماع بقوله عليه الصلاة والسلام: "ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم" الحديث
والحديث الآخر: "ما اجتمع قوم يذكرون" الخ وبسائر ما جاء في فضل مجالس الذكر.
وكذلك استدلال من استدل على جواز دعاء المؤذنين بالليل بقوله تعالى:
] ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي [()
وقوله:] ادعوا ربكم تضرعاً وخفية [()
ويجهر قوام الليل بالقرآن واستدلالهم على الرقص في المساجد وغيرها بحديث لعب الحبشة في المسجد بالدرق والحراب، وقوله http://www.binatiih.com/go/images/smiles/salla.gif لهم: "دونكم يا بني أرفدة".
واستدلال كل من اخترع بدعة أو استحسن محدثة لم تكن في السلف الصالح، بأن السلف اخترعوا أشياء لم تكن في زمان رسول الله http://www.binatiih.com/go/images/smiles/salla.gif ككتب المصحف، وتصنيف الكتب، وتدوين الدواوين، وتضمين الصناع، وسائر ما ذكر الأصوليون في أصل المصالح المرسلة، فخلطوا وغلطوا، واتبعوا ما تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها، وهو كله خطأ على الدين، واتباع لسبيل الملحدين، فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك، وعبروا على هذه المسالك، إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون أو حادوا عن فهمها، وهذا الأخير هو الصواب، إذ المتقدمون من السلف الصالح هم كانوا على الصراط المستقيم، ولم يفهموا من الأدلة المذكورة وما أشبهها إلا ما كانوا عليه، وهذه المحدثات لم تكن فيهم، ولا عملوا بها، فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال، وصار عملهم بخلاف ذلك دليلاً إجماعياً على أن هؤلاء في استدلالهم وعملهم مخطئون ومخالفون للسنة.
فيقال لمن استدل بأمثال ذلك: هل وجد هذا المعنى الذي استنبطت في عمل الأولين أو لم يوجد، فإن زعم أنه لم يوجد ولا بد من ذلك فيقال له: أفكانوا غافلين عما تنبهت له أو جاهلين به أم لا؟ ولا يسعه أن يقول بهذا، لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه، وخرق للإجماع. وإن قال إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة. كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها، قيل له: فما الذي حال بينهم وبين العمل بمقتضاها على زعمك؟ حتى خالفوها إلى غيرها؟ وما ذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيها على الخطأ دونك أيها المتقول؟ والبرهان الشرعي والعادي دال على عكس القضية، فكل ما جاء مخالفاً لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه.
¥