فأقول: تعميم الشيخ هذا الحكم على جماعة التبليغ غير مناسب، وإنما يصح ربما في بلاد العجم لا بلاد العرب، وهو مع صحته في ظني أقول هذا لا يمثل طعناً البتّة ولبيان هذا أقول: إن العلماء قد وقع منهم الخلاف في أكثر الأمور الفرعية، فمثلاً كما أن البخاري يرى رفع اليدين عند الركوع، والرفع منه، وساق بسنده إلى ابن عمر أنه "رأى رسول الله r يفعل ذلك"". إلا أنه قد أتت رواية أخرى عن ابن مسعود يرويها أبو داود في سننه أنه "رأى النبي r يرفع يديه عند الافتتاح ثم لا يعود". ولكن رد الشافعي الاحتجاج بهذا الحديث لضعفه عنده فقال: "ولو ثبت لكان: المُثْبِتُ مقدّمٌ على النافي" أ. هـ.
قلت: وقد صحح هذا الحديث بعض أهل الحديث كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح، فلو أخذ بعض أهل العلم برواية ابن مسعود وترجّح عنده صحتها، فعند ذلك فإن مثل هذا التأويل لا يطعن في عدالته وإن خالف السنة في نظرنا نحن، إلا أنه ينبغي أن ينظر في المخالف هل هو متأول في السنة أم يعلم صحتها ومع ذلك ينكرها لتعصّبه لمذهبه .. قلت: وبعد ذلك يكون الحاكم.
والذي أعلمه والله أعلم -أن مشائخ التبليغ يرون عدم رفع اليدين- مثلا ثابت عن النبي r يقول الشيخ بالمبوري: "أن النبي r رفع يديه أحياناً في الصلاة ولم يرفع أحياناً، فمن الناس من يتبع هذه السنة ومنهم من يتبع الأخرى"، فمثلاً مشائخ التبليغ -كما رأيتهم- لا يرفعون أيديهم في الصلاة حتى أن هذا هو الذي ترجح عندهم بمثل هذا الدليل أو غيره، وخصوصاً أن ابن عمر نفسه رُوي عنه أنه لم يكن يرفع يديه في الصلاة، وهذا يرويه مجاهد وضعف هذا، وأخذ به بعضهم، فالمقصود أنه ما دام المخالف من أهل العلم متأولاً في سنة معينة، ولم يظهر لنا أنه متعصب على خلاف السنة فلا جوز الطعن فيه أبداً، وأُعطي مثالاً للتوضيح:
قلت: في صحيح البخاري عن مالك بن الحويرث أنه وصف صلاة رسول الله r ووصف فيها جلسة الاستراحة. وأقره على ذلك عشرة من الصحابة كانوا معه وهو يصف لهم صلاة رسول الله، ويقولوا له بعد أن انتهى: نعم صدقت، هكذا كانت صلاة الرسول r .
ولم ينفرد مالك بن الحويرث بذكر هذه السنة بل جاءت أحاديث عن جمع من الصحابة -رضي الله عنهم- بأسانيد صحيحة تثبت تلك السنة.
إذن فخلصنا من ذلك أنها سنة تُتبع، وترك هذه السنة بعض العلماء بضرب من التأويل لا برهان عليه، كقول أحدهم -رحمه الله-: أن النبي r إنما فعلها لحاجة، وهذا رأي العلامة الفاضل ابن القيم، وقد أطال البحث في ذلك في رد تلك السنة الثابتة. فلم يلزم من ذلك الذي ذهب إليه ابن القيم أن أتّهمه بأنه متعصب بل هو مأجور إن شاء الله لاجتهاده في طلب الحق.
وأُعطي مثالاً آخر قريباً من هذا، وهي مسألة رفع اليدين في كل خفض ورفع.
أقول: وقد ثبت هذا الفعل عن رسول الله r في بعض الأحاديث الصحيحة، وثبت كذلك من بعض فعل الصحابة -رضي الله عنهم- كابن عمر وابن عباس، وكذلك ثبت من فعل بعض التابعين كطاووس ونافع وعطاء، كما أخرج ذلك عنهم عبد الرزاق بأسانيد قوية، كما قال الحافظ -رحمه الله- في فتح الباري: "إذن فقد ثبت عندنا أن رفع اليدين في كل خفض ورفع سنة فعلها الرسول r".
ولكن هؤلاء جماهير العلماء لا يرون هذا الفعل سنة … فلم يلزمنا نحن الذي صح عندنا الحديث بهذه السنة أن نقول: إن جماهير العلماء متعصبون، أو إلى غير ذلك من الاتهامات لاجتهادهم لطلب الحق.
خلاصة هذه المسألة أنه لا يجوز لنا أن نطعن بأحد من العلماء لأنه مثلاً ترجح عنده رفع اليدين في الصلاة، أو لم يترجح عنده ذلك بل الواجب على الجميع اتباع سنة رسول الله r ما أمكن، وإن خالف بعض العلماء سنة من السنن لرسول الله r فلا ينبغي ذلك القدح في عدالته كما فعل ذلك الشيخ الهلالي مع جماعة التبليغ هدانا الله وإياه، لأن المتأول حينئذ سيكون داخلاً في عموم قول النبي r: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر" وإنني أرى أني قد أطلت، وبهذا القدر كفاية والله أعلم بالصواب.
وكذلك ما نقله المؤلف أن التبليغ سَدُّوا باب الاجتهاد؛ خطأ محض. حيث أن هذا من قول مدرسة ديوبند وهذا هو ما قاله الشيخ الهلالي ثم ينسب هذا إلى جماعة التبليغ فإنه لا علاقة بين مدرسة ديوبند وجماعة التبليغ، وسيأتي بيان ذلك قريباً إن شاء الله عز وجل.
¥