ومن الأدلة أيضاً: قوله تعالى ?قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً ... الآية? إلى قوله تعالى ? وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً? وهذه الآية دليل على تكليف الجن من عدة وجوه:-
أحدها: أن إخبار الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بهذا الاستماع فيه التصريح بأن هؤلاء النفر قد آمنوا وقرّ الإيمان في قلوبهم وهذا فيه دليل أنهم مكلفون بالإيمان به وإلا لما كان في هذا الإخبار فائدة ولم يكن ليمدح هؤلاء بأنهم فعلوا شيئاً لم يكلفوا به، فلما أخبر بذلك إخبار المادح لهم دل ذلك على أنهم فعلوا ما كان يجب أن يفعلوه وهو الإيمان بالرسول وبالقرآن.
ثانيها: أنهم تعجبوا من هذا القرآن من بيانه وفصاحته وبلاغته ومعانيه وأخذه بمجامع القلوب وهذا فيه دليل على أن عندهم القدرة على الفهم والتذكر والاتعاظ والاعتبار والعقل، وهذا كافٍ في تكليفهم، فما المانع في تكليفهم وهم عقلاء يفهمون وقادرون على الامتثال.
ثالثها: التصريح بوقوع الإيمان منهم وذلك في قوله تعالى ?فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً? وهذا نص صريح قاطع في أنهم مكلفون بالإيمان بالرسول وبالقرآن، ومنهيون عن الشرك.
رابعها: في قوله تعالى ?وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ? ولا يعرف الصالح من غيره إلا بمتابعة الرسل الذي بعثوا إليهم فمن تابع رسوله الذي بعث إليه فهو الصالح ومن خالف واستكبر فهو الطالح وهذا فيه دليل على أن منهم طائفة قد آمنوا برسولهم واتبعوا ما جاءوا به من الحق وهؤلاء هم الصالحون وهذا يدل على أنهم مكلفون.
خامسها: قوله تعالى ?وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً? وهذا فيه دليل على أنهم مكلفون وأن المسلمين منهم هم الناجون وأما القاسطون المشركون فهم الخاسرون وكل ذلك دليل على أنهم مطالبون بالإسلام والإيمان ومنهيون عن الشرك والطغيان وبالجملة فسورة الجن من أولها إلى آخرها كلها أدلة على القول بتكليف الجن كما هو قول جماهير أهل الإسلام والله أعلم.
ومن ذلك: سورة الرحمن فإن الله تعالى قد ذكر فيها قوله ?فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ? في واحد وثلاثون موضعاً والخطاب فيها للثقلين وهذا يفيد أنهم مكلفون بالإيمان بالله والاعتراف بعظيم نعمته عليهم والقيام بحق هذه النعم من شكرها باللسان والجوارح وقبل ذلك بالقلب ومأمورين بالإيمان بجميع القضايا والشرائع التي أخبرت عنها هذه السورة العظيمة والله أعلم.
ومن ذلك: قوله تعالى في سورة سبأ إخباراً عن سليمان عليه الصلاة السلام ?وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ? وهذا تهديد للجن بالعذاب الشديد حلا زيغهم عن أمره جل وعلا, وهو يدل على تكليفهم وإلا لما استحقوا العذاب على هذه المخالفة.
ومن ذلك: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عامر قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود مع رسول الله ? ليلة الجن؟ قال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت هل شهد أحد منكم مع رسول الله ? ليلة الجن قال: لا ولكنا كنا مع رسول الله ? ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا أستطير أو اغتيل قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء قال: فقلنا فقدناك يا رسول الله فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فقال:» أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن «قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال» لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً وكل بعرة علف لدوابكم «فقال رسول الله ?» فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم «وهذا نص صحيح صريح في تكليف الجن لدعوتهم له وذهابه إليهم وقراءة القرآن عليهم وهذا دليل على أنهم مكلفون بهذا الكتاب كما أن الإنس مكلفون به.
¥