تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

عياذًا بالله من الشقاء. وظنوا أنهم قادرون على إنفاذ مخططهم، فحين فشل أبو عامر الراهب ـ وكان من الخزرج ـ في هزيمة الرسول يوم أحد وحاول قتله التفت من طريق آخر، فكتب إلى منافقين من أهل المدينة يَعِدهم ويُمنّيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول ويغلبه، وأمر قومه أن يتخذوا له معقلاً يكون بمثابة المكتب يستقبلون فيه رسائله وتوجيهاته ومخططاته، وليكون مقرًا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فبنوا المسجد بجوار قباء في المدينة، وأحكموا بناءه وفرغوا منه، ولإخفاء نواياهم ومقاصدهم والغرض الذي بنوه من أجله طلبوا من الرسول أن يقدم عليهم ليفتتحه ويصلي فيه، فيحتجوا بصلاته فيه على أنه أقرّ عملهم وبارك جهدهم.

هكذا يفكّرون، ويظنون بالمسلمين من الغباء الشيء الكثير، فاعتذر الرسول عن ذلك لأنه تجهّز للسفر إلى تبوك لغزو الروم هناك، لكنه لما رجع قافلاً من تبوك وكان عازمًا على الذهاب إلى ذلك المسجد نزل الوحي يمنعه من الذهاب إليه والصلاة فيه وأنه بُني حربًا لله ورسوله، فبعث الرسول من فوره جمعًا من الصحابة ليهدموه ويحرقوه؛ لأنه لم يُرد أهله إلا الإضرار والكفر، وليكون مركزًا للتعاون مع أعداء الإسلام تحت ستار الدين.

وفي الآيات بشارة عن مصير كل مسجد ضرار يقام إلى جوار مساجد التقوى، وأنه سينكشف ويُفضح أهله، وتطمين للمؤمنين المتطهرين العاملين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أن كل كيد يراد بهم وبدينهم مصيره الفشل والهزيمة؛ لأن مساجد التقوى أُسّست على حق وأساس راسخ، ومساجد الضرار قائمة على شفا جرف هار، على تربة مخلخلة مستعدة للانهيار.

أيها المسلمون، حركة النفاق تقوى وتنشط كلما قويت الدعوة، لكنها ـ أي: حركة النفاق ـ تعمل في سراديب ودهاليز وأنفاق وفي الظلام، ولعل هذا سِرُّ قساوة ضرباتها وأذيتها، ولولا أن المؤمنين يأخذون علاجهم بوصفة نبوية ومن وحي السماء لتأخر وتفاقم جرحهم الذي أحدثه المنافقون فيهم.

فيا أيها العاملون والناصحون والدعاة وطلبة العلم، ويا أيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، سيروا وأمّلوا خيرًا وأبشروا، فليس من كان بناؤه مؤسسًا على التقوى كمن أسس بنيانه على حافة منهارة.

ثبت الله الناصحين العاملين، ورزقهم اليقين، وأبطل كيد الكائدين، إنه نعم المولى ونعم النصير

الخطبة الأولى

أما بعد: فلا يزال الحديث موصولاً عن صور الخلط والتخبط وسوء التقييم الذي هو سمة من سمات المنافقين تجاه أهل الدعوة والعلم والدين، لكن قبل ذلك أحبّ أن أذكّر وأنبّه إلى أن عدد السور المدنية ثلاثون سورة، منها سبع عشرة سورة فيها ذكر المنافقين، استغرق الحديث عنهم ما يقرب من ثلاثمائة وأربعين آية، بل إن ابن القيم رحمه الله قال: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم" اهـ.

وبلية الإسلام بالمنافقين شديدة جدًا، لأنهم منسوبون إليه أي: إلى الإسلام، وهم أعداؤه في الحقيقة، بل هم العدو الأول، وإن كان كل كافر عدوًا للمسلمين. وكون المنافقين يتبوؤون المركز الأول في العداوة للمؤمنين لأن غيرهم يجاهر بكفره وعداوته، وله منهجه وعقيدته وشريعته المعلنة، وأما المنافقون فمُندسّون مع المسلمين في الديار والمنازل، ليلاً ونهارًا، يدلُّون على العورات، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر.

كان لعبد الله بن أبي مقام يقومه في مسجد رسول الله كل جمعة نظرًا لشرفه وسيادته ووجاهته في أهل المدينة، فإذا قام النبي يخطب في الناس يوم الجمعة قام ابن أبي بعد الخطبة فقال: أيها الناس، هذا رسول الله بين أظهركم، أكرمكم الله به، وأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا. ولما جاءت غزوة أحد وصنع رأس النفاق ما صنع من رجوعه بثلث الجيش عن القتال تخذيلاً للمسلمين لم يتخلَّ عن عمله السابق يوم الجمعة في مسجد الرسول من التظاهر بنصرته ودعوة الناس إلى السمع والطاعة لولي الأمر، لكن المسلمين هذه المرة أخذوا بثيابه من نواحيه وقالوا: اجلس أي عدو الله، لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت، فخرج من المسجد يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله، لكأنما قلت بُجْرًا، أي: أمرًا عظيمًا.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير