تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إن من أعظم أسباب الخذلان والخسران والذل والهوان التي أودت بالأمة المسلمة عبر تاريخها الطويل ثقة كبرائها في المنافقين، واطمئنانهم إليهم، وإدناءهم لاستشارتهم، وتقريبهم وتوليتهم، واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، وتسليمهم قضايا الأمة ومصالحها؛ ليعملوا عملهم في خيانتها وهدمها وتمكين أعدائها منها.

وما خُذلت الأمة في القديم والحديث حتى ضاع مجدها وأفل نجمها واضمحلت سيادتها وامتهنت كرامتها وفقدت كثيرا من أراضيها وثرواتها إلا على أيدي المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، ويبدون النصح وهم يخونون. بهم ضاعت ممالك الأندلس، وعلى أيديهم سقطت خلافة بني العباس في أيدي التتر، حتى جيء بآخر الخلفاء العباسيين فألقي تحت أقدام هولاكو وجنده يرفسونه ويدوسونه حتى مات، وبالمنافقين العبيديين سقط بيت المقدس في براثن الصليبيين، وبالمنافقين سقطت دولة بني عثمان، ومزقت دولة الإسلام العظيمة إلى دول مجزأة ترزح تحت الاستعمار النصراني فيما عرف باتفاقية (سايكسبيكو).

بالمنافقين امتطى الأعداء دول الإسلام دولة دولة ومزقوها شر ممزق، وحاولوا تحريف دينها، وأفسدوا مناهجها، وقضوا على أوقافها، وحرَّشوا بينها.

بالمنافقين انتهكت سيادة الأمة واستقلاليتها، وأضحت عالة على غيرها. لقد أضعفوها بعد القوة، وأذلوها بعد العزة، وأفقروها بعد الجدة، وأكثر الفقر والعوز في الأرض مرتكز في دول أهل الإسلام، رغم امتلاكهم أكثر الثروات.

وكل احتلال لأراضي المسلمين في عصرنا هذا بدءًا من فلسطين فكشمير فأفغانستان فالشيشان فالصومال وانتهاء بالعراق كانت كتائب المنافقين في مقدمة جيوش المستعمرين، تدل على العورات، وتُرَوِّج للاحتلال، وتُخَذِّل في الناس.

إن من نظر إلى سيرة المنافقين مع هذه الأمة واستقرأ أفعالهم فيها علم لماذا جاءت آيات القرآن تحذر المؤمنين من المنافقين أشد من تحذيرها من المشركين، وفي مطلع سورة البقرة آيتان فقط عن الكافرين، وثلاث عشرة آية عن المنافقين، وصفهم الله تعالى فيها بأنهم مرضى القلوب مخادعون مستهزئون، يدَّعون الإصلاح وهم مفسدون. ولا يعدو حالهم في زمننا هذا الوصف الدقيق الذي أُنزل من عند الله تبارك تعالى قبل أربعة عشر قرنا وزيادة.

وأكثر الآيات القرآنية التي حذرت من المنافقين وبينت أوصافهم القبيحة وذكرت خياناتهم المتكررة للأمة جاءت في سياق الحروب والأزمات والغزوات، فهي وقت عمل المنافقين وإرجافهم، وفي أحد دُعوا للقتال فقالوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران: 167]، ثم لما ابتلى الله تعالى المؤمنين بالقتل كانت مواساة المنافقين للمؤمنين لا تخرج عن الشماتة والتشفي فقالوا: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران: 156].

وفي غزوة الخندق دُعوا للدفاع عن المدينة فقال فريق منهم: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزاب: 13]، وقال آخرون: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [الأحزاب: 13]، ففضحهم الله تعالى فقال سبحانه: وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا [الأحزاب: 13]، وكانوا يقولون: مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا [الأحزاب: 12].

وفي سورة براءة فضحهم الله تعالى، وبين خيانتهم للمؤمنين في غزوة تبوك، وقال في القاعدين منهم: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة: 47].

ولذلك حذر الله تعالى المؤمنين من المنافقين أكثر مما حذرهم من الكافرين، ونهاهم عن اتخاذهم بطانة، وكان هذا النهي في إثر أول خيانة للمنافقين في غزوة أحد بعد أقل من عام واحد على ظهور النفاق في هذه الأمة؛ مما يدل على عظيم خطر المنافقين وفداحة جرمهم، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير