بقاءهما في عهد يزيد محفوف بالمخاطر، وذلك أدى بهما إلى أن يبحثا عن الأمان، ولم يجداه إلا في تجييش أنصارهما، وحشدهم في مكان يصعب على يزيد وأعوانه أن يقتحموه، وكان ذلك في مكة المكرمة، في جوار بيت الله الذي قال فيه: +وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا" [آل عمران: 97].ولم يكن لهذا التجمع وذلك الحشد نتيجة سوى المواجهة التي أودت بحياة الآلاف من المسلمين، وكان على رأس هؤلاء جميعًا الحسين بن على - رضي الله عنهما - حيث قتل في كربلاء - شهيدًا - على يد فئة ظالمة من
جيوش يزيد ().
لقد كانت غلطة من يزيد، بدأ بها حياته، وظلت تلاحقه حتى مماته، ولم يستطع التخلص منها، وبدأت سلسلة الأخطاء تتوالي في حياة الخليفة، وكلما ادلهمت الأمور من حوله، عظمت الأخطاء، وتضخمت المشكلات، وكلما أراد حل مشكلة، عرض لها بمشكلة أخطر منها وأفظع، فمن الإصرار على عدم البيعة إلى تكوين جبهة معارضة تستعد للقتال، ومنها إلى معركة كربلاء، ثم تتمخض هذه المعركة عن قتل ابن بنت رسول الله ×، وتؤدي إلى غضب المسلمين، وإعلان ابن الزبير الخروج على الخليفة، وتستمر العداوة والبغضاء حتى تكون وقعة الحرة، وتتشوه صورة الخليفة في أعين المسلمين، ثم يتوفى بعد ذلك بقليل، أين غاب حلم معاوية عن ولي عهده؟ أغلب الظن أن الذي ورط يزيد في هذه الأخطاء الشنيعة هو غياب المستشارين الحكماء عن مجلسه، وحداثة سنه، وقلة خبرته. كما أن يزيد كان يفتقد حلم أبيه، وتنقصه قوة
إرادته في الحلول السلمية، لقد كانت الكوارث الكبرى في عهد يزيد:
مقتل الحسين ?، ووقعة الحرّة بالمدينة، وحصار مكة للوصول لابن الزبير، لقد وصم يزيد عهده بوصمة لن يمحوها ماء البحار، ولن تزيل مرارتها
عذوبة الأنهار ().
إن أهل السنة والجماعة يعتبرون بيعة يزيد صحيحة ولكنهم عابوا عليها أمرين:
1 - قالوا إن هذه بدعة جديدة وهي أنه جعل الخلافة في ولده، فكأنها صارت وراثة بعد أن كانت شورى وتنصيصًا على غير القريب، فكيف بقريب وابن مباشر؟!، فمن هذا المنطلق رُفض المبدأ بغض النظر عن الشخص، فهم رفضوا مبدأ أن يكون الأمر وراثة.
2 - أنه كان هناك من هم أولى من يزيد بالخلافة كابن عمر وابن الزبير والحسين وغيرهم هذا من وجهة نظر أهل السنة ().
أما من وجهة نظر الشيعة فإنهم يرون الإمامة والخلافة في على وأبنائه فقط، فهم لا يعيبون بيعة يزيد بذاتها وإنما يعيبون كل بيعة لا تكون لعلىّ وأولاده، فهم يعيبون بيعة أبى بكر وعمر وعثمان ومعاوية كلها بغض النظر عن المبايع له، لأنهم يرون أنها نص لعلىّ وأبنائه إلى أن تقوم الساعة ()، وقد ناقشت معتقد الشيعة في الإمامة في كتابي عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب ?، وبينت بطلانه.
ثانيًا: حركة عبد الله بن الزبير في عهد يزيد
كان ابن الزبير ? قد عقد العزم على عدم البيعة ليزيد، واختار الذهاب والاستقرار بمكة.
أ- أسباب اختيار ابن الزبير لمكة:
اجتمعت عدة أسباب جعلت مكة أنسب مكان يمكن أن يتجه إليه ابن الزبير - في نظره- ومن أهمها ما يلي:
1 - أنها المكان الوحيد الذي يمكن اللجوء إليه في هذه الفترة؛ وذلك لأن الأقاليم الأخرى ليست مناسبة، فالعراق - بمصرية الكوفة والبصرة - لا يمكن ضمان ولاء أهله لأي زعيم معارضة ضد بنى أمية، وما فعلوه مع الحسين خير دليل على ذلك، وكان ابن الزبير يعي ذلك تمامًا حينما نصح الحسين بعدم الذهاب إلى العراق ()، فقال له: أين تذهب؟! إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟ أما مصر واليمن فقد كانتا بعيدتين عن مسرح الأحداث، ولم يكن لابن الزبير في هذين الإقليمين أنصار ومؤيدون يمكن أن يعتمد عليهم، وأما الشام فكما هو معروف كان معقل الأمويين.
2 - إن مكة - لوجود بيت الله فيها - كانت بلدًا حرامًا ولا يجوز سفك الدماء بها، وهذا يكفل لمن يعتصم بها حماية من القتل إلا إذا ارتكب حدًا يوجب ذلك، وعلى أقل تقدير فوجود هذا الحكم الخاص بمكة يجعل التفكير باستخدام القوة آخر حل يُلجأ إليه.
3 - وكما أن مكة بلد له مكانته وقدسيته في نفوس المسلمين، فإن من يتعرض له بالإيذاء سيواجه معارضة من قبل العديد من المسلمين الذين سيهبون للدفاع عن بيت الله الحرام بغض النظر عمن يعتصم به، وقد أفاد ابن الزبير من هذه النقطة كثيرًا.
¥