نصت مقررات مؤتمر الجابية -كما أشرنا- على أن تكون الخلافة لعمرو بن سعيد الأشدق بعد مروان بن الحكم وخالد بن يزيد بن معاوية, وتجاوز مروان عمرًا وبايع لابنيه عبد الملك, وعبد العزيز, الأمر الذي أثار نقمة عمرو, بعكس خالد بن يزيد الذي انصرف إلى العلم, لاسيما الكيمياء () , وفي أول سنة 69هـ خرج عبد الملك بجنوده يريد قرقيسيا, ليحاصر فيها زفر بن الحارث, واستخلف على دمشق عمرو بن سعيد بن أبي العاص, ولم يكد عبد الملك يخرج بجيشه من دمشق, حتى تحصن عمرو بن سعيد, وأخذ ما في بيت المال من الأموال, وتذكر رواية أخرى أن عمرو بن سعيد كان مع عبد الملك حين خرج إلى قرقيسيا, ولكنه استغل فرصة الليل, وانخذل هو وجماعة معه من الجيش, ورجعوا إلى دمشق, ففر والي دمشق من قبل عبد الملك -عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي- ودخلها عمرو بن سعيد واستحوذ على ما فيها من الخزائن () وبعث عمرو إلى عبد الرحمن ابن أم الحكم فلم يجده, فأمر بهدم بيته, واجتمع الناس وصعد عمرو المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس, إنه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر إلا زعم أن له جنة ونارًا, يدخل الجنة من أطاعه, والنار من عصاه, وإني أخبركم أن الجنة والنار بيد الله, وأنه ليس إليَّ من ذلك شيء, غير أن لكم عليّ حسن المواساة والعطية () , وأصبح عبد الملك فسأل عن عمرو بن سعيد فلم يجده, فكر راجعًا إلى دمشق, فوجد عمرًا وقد تحصن بها, ودارت بينهما معركة استمرت ستة عشر يومًا () , ويبدو أن عبد الملك قد رأى موقف عمرو قويًا حيث كان متحصنًا بقلعة رومية منيعة, فعرض الصلح فتصالحا على ترك القتال ().
1 - شروط عمرو بن سعيد بن العاص: كانت شروطه كالآتي: على أن لعمرو بن سعيد الخلاقة بعد عبد الملك () , وأن يكون له عامل مع كل عامل لعبد الملك, وأن يستشيره في كل صغيرة وكبيرة () ويوليه الديوان وبيت المال (). وتبرز كتب التاريخ أسبابًا عديدة دعت عبد الملك للقبول بهذه الشروط منها:
أ- انقسام قبيلة كلب -ذات القوة والتأثير السياسي في الأحداث
آنذاك- بين عبد الملك وعمرو الأشدق مما جعل كسب المعركة بالقوة يؤدي إلى خسائر فادحة لكلا الطرفين, ولم يكن لصالح كلب التي فرضت الصلح ().
ب- سيطرة عمرو الأشدق على مدينة دمشق التي تعد العاصمة -آنذاك- وفيها بيت المال وديوان الجند اللذان يعدان عصب الحياة وكسب المؤيدين آنذاك.
ج- وقوف أكثر القبائل اليمانية الأخرى على الحياد, وعدم تدخلها في الصراع, مما يجعل القرار الفعلي للصلح بيد قبيلة كلب ذاتها ().
د- قوة عمرو بن الأشق في الشام -خاصة في دمشق- فقد أيدته دمشق, فضلاً عن زعيم بجيلة عبد الله بن كريز القسري الذي كان مع شرطته ().
هـ- ويمكن أن يكون قبول الاتفاقية من قبل عبد الملك لحل النزاع سلميًا, ثم القيام بقتل عمرو بن الأشدق بعد اتفاقه مع بعض زعماء الشام وبني أمية ().
2 - غدر عبد الملك بابن عمه عمرو بن سعيد: وبعد عقد الصلح ودخول عبد الملك دمشق بأربعة أيام, أرسل إلى عمرو أن ائتني .. فلما كان بعد الظهر لبس عمرو درعًا بين ثيابه, وتقلد سيفه, فلما نهض عثر في البساط, فقالت امرأته وبعض من كان حاضرًا عنده: إنا لا نرى أن تذهب إليه, فلم يعبأ بكلامهم, ومضى في مائة من عبيده, وكان عبد الملك قد أمر بني مروان بالحضور عنده, وأمر حاجبه أن يدخل ابن سعيد ويغلق الباب دون من معه .. ثم غُلقت الأبواب واقترب عمرو من عبد الملك, فرحب به وأجلسه معه على السرير, ثم جعل يحدثه طويلاً. ثم إن عبد الملك قال: يا غلام, خذ السيف عنه, فقال عمرو: إنا لله يا أمير المؤمنين, فقال له عبد الملك: أو تطمع أن تتحدَّث معي متقلدًا سيفك؟ فأخذ الغلام السيف عنه, ثم تحدثا ساعة, ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية. قال: لبيك يا أمير المؤمنين, قال: إنك حيث خلعتني آليت بيميني إن ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة. فقال بنو مروان: تم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: ثم أُطلقه, وما عسيت أن أفعل بأبي أمية؟ فقال بنو مروان: أبرّ قسم أمير المؤمنين, فقال عمرو: فأبرّ قسمك يا أمير المؤمنين. فأخرج عبد الملك من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه, ثم قال: يا غلام, قم فاجمعه فيها. فقام الغلام فجمعه فيها, فقال عمرو: أُذكِّرُك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رءوس الناس, فقال
¥