كان انتصار عبد الملك بن مروان على مصعب بن الزبير في معركة دير الجاثليق إيذانًا بانتهاء دولة عبد الله بن الزبير؛ فقد استقرت له الأمور في جميع الأمصار الإسلامية, وانحصرت دولة ابن الزبير في الحجاز, ولم يكن في استطاعته الصمود, لافتقاره إلى المال والرجال, كما أن مقتل أخيه مصعب قد فت في عضده وأصابه الإحباط, ولكنه لم يلق رايته, وظل يقاوم حتى النهاية .. لم يضيع عبد الملك بن مروان وقتًا بعد انتصاره على مصعب, وقرر أن يقضي نهائيًا على دولة ابن الزبير () ووقع الخيار لقيادة الجيش للقضاء على ابن الزبير على الحجاج بن يوسف, وتوجه بجيشه إلى الحجاز, واستقر بالطائف, وبدأ يرسل بعض الفرق العسكرية إلى مكة, وكان ابن الزبير يرسل إليه بمثلها فيقتتلون وتعود كل فرقة إلى معسكرها () , وأمر عبد الملك طارق بن عمرو -الذي كان مرابطًا بوادي القرى- أن ينضم إلى جيش الحجاج, فتوجه طارق إليه وكان معه خمسة آلاف رجل ().
1 - الحصار الاقتصادي: وفي محاولة لإنهاك ابن الزبير قام الحجاج بفرض حصار اقتصادي على مكة, ويروي ابن حزم أن عبد الملك بن مروان كان يسهم في فرض هذا الحصار؛ فقد أوكل إلى خالد بن ربيعة مهمة قطع الميرة عن ابن الزبير وأهل مكة () , وقد أثر هذا الحصار على ابن الزبير وأصابت الناس مجاعة شديدة حتى إن ابن الزبير اضطر إلى ذبح فرسه ليطعم أصحابه () , وفي الوقت نفسه كانت العير تحمل إلى أهل الشام من عند عبد الملك, السويق, والكعك والدقيق () , وقد ترتب على تردي الأحوال داخل مكة, أن بدأ التخاذل يدب بين أنصار ابن الزبير, وبدأوا ينسحبون واحدًا تلو الآخر, ومما شجع على
تخاذل هؤلاء إعطاء الحجاج الأمان لكل من كف عن القتال وانسحب من جيش ابن الزبير ().
2 - نصب المنجنيق على جبال مكة: أراد الحجاج بن يوسف الثقفي أن ينهي أمر ابن الزبير فكتب إلى عبد الملك بن مروان يطلب منه الإذن بقتاله ومناجزته, فأجابه عبد الملك بقوله: افعل ما ترى (). وهذه الإجابة تحمل في مضمونها الموافقة على طلب الحجاج المتحفز لقتال ابن الزبير, وتوجه الحجاج ابن يوسف بجميع جيشه إلى مكة ونصب المنجنيق على جبالها, وبدأ يضرب ابن الزبير داخل الحرم ضربًا متواصلاً, وفي الوقت نفسه كانت بقية جيشه يقاتلون البقية الباقية مع ابن الزبير () , وتوسط بعض أعيان مكة وعلى رأسهم ابن عمر لدى الحجاج طالبين إليه أن يكف عن استعمال المنجنيق فأجابهم: والله إني لكاره لما ترون ولكن ماذا أصنع وقد لجأ هذا إلى البيت؟ وكانت وفود الحج قد جاءت إلى مكة من كافة الأقطار الإسلامية, وقد منعهم من الطواف حول البيت ما يتعرض له الطائفون من خطر المنجنيق, ولما كان في ذلك تعطيل لركن من أركان الحج فقد تدخل في الأمر ابن عمر فكتب إلى الحجاج يقول له: اتق الله فإنك في شهر حرام وبلد حرام, وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض ليؤدوا فريضة الله ويزدادوا خيرًا () , فأرسل الحجاج إلى طارق بن عمرو بأن يكف عن استعماله حتى ينتهي الناس من الحج, وقال لهم: والله إني لكاره لما ترون, ولكن ابن الزبير لجأ إلى البيت () , وأيًّا ما كان فقد كف عن استعمال المنجنيق حتى انتهى الناس من الطواف () ,
وبعدما انتهى موسم الحج نادى الحجاج في الناس بالانصراف إلى البلاد
وأن القتال سيستأنف ضد ابن الزبير ().
ويروي البلاذري أن العديد ممن كانوا مع ابن الزبير حاولوا إقناعه بقبول أمان الحجاج بن يوسف, فلم يستجب ابن الزبير لمحاولاتهم وأصر على القتال, وقد سطرت الروايات مواقف بطولية رائعة لابن الزبير ? في مواجهة كتائب الحجاج, ولم يمنعه كبر وخذلان من حوله, من الثبات على مبدئه الذي
قاتل من أجله ().
3 - أسماء بنت الصديق ترسم لابنها طريق الأحرار: بعد انتهاء موسم الحج نادى الحجاج في الناس أن يعودوا إلى بلادهم لأنه سيعود إلى ضرب البيت بالحجارة () , وبالفعل بدأ يضرب الكعبة, وشدد على ابن الزبير, وتحرج موقفه وانفض عنه معظم أصحابه, ومنهم ابناه حمزة وخبيب, اللذان ذهبا إلى الحجاج وأخذا منه الأمان لنفسيهما (). فلما رأى ذلك دخل على أمه فقال لها: يا أمه, خذلني الناس حتى ولديّ وأهلي, فلم يبق معي إلى اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة, والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا, فما رأيك؟ فقالت: أنت -والله- يا بني أعلم بنفسك, إن كنت تعلم أنك على
¥