وفي رواية عن إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: دخل الحجاج على ابن عمر وأنا عنده فقال: كيف هو؟ فقال: صالح. فقال: ما أصابك؟ قال: أصابني من أمر بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله؛ يعني الحجاج () ولما خرج الحجاج قال ابن عمر: ما آسى على شيء من هذه الدنيا إلا على ثلاث, وذكر منها: ألا أكون قاتلت هذه الفئة الباغية التي حلت بنا () , يقول الذهبي في تعليقه: يعني بالفئة الباغية الحجاج () وأنا أزيد: ومن أرسله.
9 - منهج ابن عمر في الفتن: لم يكن ابن عمر بمنأى عن الأحداث السياسية من حوله, بل كانت له نظراته وتحليلاته لتلك الأحداث, وتميز ابن عمر بمواقفه في الفتن تميزًا واضحًا, فقد عايش عددًا من الفتن التي ابتليت بها الأمة الإسلامية آنذاك, وقد كشفت تلك الفتن عن حكمة بالغة ونظرة ثاقبة للأحداث, مما جعله بحق مدرسة مليئة بالدروس المفيدة والآداب الجمة التي اهتدى بها كثير من الناس في عصره, وأصبحت بعده معلمًا يقتدى به من بعده () , كما قال سفيان الثوري -رحمه الله-: يقتدي بعمر في الجماعة وبابنه في الفرقة ().
ومن أبرز ما يميز منهج ابن عمر في التعامل مع الفتن ما يلي:
أ- تجنب القتال والحرص على حقن دماء المسلمين:
وقد وردت عدة روايات توضح موقف ابن عمر رضي الله عنهما من ذلك القتال الدائر في الفتنة الأولى والثانية, فعن القاسم بن عبد الرحمن قال: قالوا لابن عمر في الفتنة الأولى: ألا تخرج فتقاتل؟ فقال: قد قاتلت والأنصاب بين الركن والباب حتى نفاها الله عز وجل من أرض العرب, فأنا أكره أن أقاتل من يقول: لا إله إلا الله. قالوا: والله ما رأيك ذلك, ولكنك أردت أن يفنى أصحاب رسول الله × بعضهم بعضًا, حتى إذا لم يبق غيرك قيل: بايعوا
لعبد الله بن عمر بإمارة المؤمنين. قال: والله ما ذلك فيَّ, ولكن إذا قلتم: حي على الفلاح أجبتكم, وإذا افترقتم لم أجامعكم, وإذا اجتمعتم لم أفارقكم () , وجاءه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس قد صنعوا ما ترى, وأنت ابن عمر وصاحب رسول الله, فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم عليّ دم أخي المسلم, قال: ألم يقل الله: +وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ" [البقرة:193] فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله, فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يرد قال: فما قولك في علي وعثمان؟ قال ابن عمر: ما قولي في علي وعثمان؟ أما عثمان فكان الله قد عفا عنه فكرهتم أن تعفوا عنه, وأما علي, فابن عم
رسول الله × وختنه, وأشار بيده, وهذا بيته حيث ترون ().
ولم يكتف ابن عمر ? بالحرص على كف نفسه وتجنيبها إراقة
دماء المسلمين, بل سلك بعض السبل التي تؤدي إلى تجنب المسلمين إراقة
الدماء فيما بينهم, من ذلك محاولته الجادة -خلال الخلاف بين ابن الزبير
وعبد الملك بن مروان- لإنهاء القتال بينهما حقنًا لدماء المسلمين (). فروى المدائني أن عبد الله بن عمر كتب إلى عبد الملك بن مروان يأمره بتقوى الله وأن يكف نفسه, فكتب إليه عبد الملك أنه سيخرج نفسه ويجعل الأمر شورى, فلما كتب ابن عمر إلى ابن الزبير بذلك لم يلتفت إليه ().
ب- الحث على السمع والطاعة للإمام القائم ونهيه عن إثارة الفتنة وتفريق الكلمة:
قال ابن عمر رضي الله عنهما: جاءني رجل في خلافة عثمان, فإذا هو يأمرني أن أعتب على عثمان, فلما قضى كلامه قلت له: إنا كنا نقول ورسول الله × حي: أفضل أمة محمد بعده: أبو بكر وعمر ثم عثمان, وإنا -والله- ما نعلم عثمان قتل نفسًا بغير حق, وجاء من الكبائر شيئًا, ولكنه هذا المال, إن أعطاكموه رضيتم وإن أعطاه قرابته سخطتم. إنما تريدون أن تكونوا كفارس والروم, لا يتركون أميرًا إلا قتلوه, ففاضت عيناه بأربع من الدمع ثم قال: اللهم لا تُرد ذلك () , وروى سالم بن عبد الله بن عمر أن أباه قال: لقد عتبوا على عثمان أشياء لو فعلها عمر ما عتبوا عليه (). فانظر إلى أي مدى كان حرص عبد الله بن عمر رضي الله عنهما على الدفاع عن عثمان والذب عن عرضه والتصدي لما يثيره أهل الفتنة ضد عثمان بن عفان ?؛ لما كان يعلم من خطورة مثل هذا المنحى وما يؤدي إليه من النيل من الخليفة من فساد, وفرقة, لذا فإن عثمان منحه ثقته فكان يستشيره إبان محنته مع الغوغاء, فحين دخل عليه ابن عمر قال له عثمان: انظر ما يقول هؤلاء؛ يقولون: اخلع نفسك أو نقتلك. قال له ابن عمر:
¥