تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقال ابن حجر: ((المعلّل وهو من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها، ولا يقوم به إلا من رَزَقه الله تعالى فهماً ثاقباً وحفظاً واسعاً ومعرفةً تامةً بمراتب الرواة، ومَلَكَةً قويّة بالأسانيد والمتون، ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أهل الشأن كعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ويعقوب بن أبي شيبة، وأبي حاتم وأبي زرعة والدارقطني،. وقد تقصر عبارة المُعَلِّل عن إقامة الحجة على دعواه كالصيرفي في نقد الدينار والدرهم)) ().

هذه نصوص جهابذة علم الحديث تدل على ما عانوه وعالجوه، وقد أخبروا عن تجربة وخبرة ومراس.

وهنا تنبيه: ينبغي أن نفهم كلام الأئمة: ابن مهدي وأبي حاتم وابن حجر في أنه قد تقصر عبارة المعلل عن إقامة الحجة على دعواه كالصيرفي في نقد الدينار والدرهم - على وجهه الصحيح، وهو أنه قد يُعَلِّل المُعَلِّل ولا حجة له فيه، في حينه حتى يُقنِع المخاطب، فقد تحصَّل له ملكة قوية راسخة، حتى إنه بمجرد النظر في إسناد الحديث ومتنه تظهر له صحته أو ضعفه فيحكم في أول وهلة ببصيرته أنه صحيح أو معلول، ولكن إذا طلبت منه حجة فلابُدَّ أن يذكرها ويذكر تفاصيلها وأدلتها.

فلا يمكن أن نجد حديثاً معللاً إلا دونه سبب لا يظهر لعامة الناس، لكن يختصر المعلل الحكمَ فيذكر حكمه بدون إبداء السبب.

وقد استدلَّ بقول ابن مهدي بَعضُ من له هوى في إنكار الحديث فتوسّع في تفسيره والاستدلال به فقال: إن المحدث قد يرى الحديث المتفق على صحته أنه ضعيف فهو ضعيف عنده، وبالعكس، ولا يستطيع إقامة الحجة على ذلك، وهو معذور في حكمه هذا، كالصيرفي الناقد يحكم على الدراهم بالزيف والصالح ويعجز عن إبانة السبب.

فنقول: ليس الأمر كما ذكر وفَهِم هذا البعض، فالواقع يخالف قوله، فهذه كتب العلل أمامنا إن وجد الإيجاز والاختصار في بعض المواضع منها نجد التفصيل في مواضع أخرى، فمثل المعلل كمثل الطبيب الحاذق إذا عرض له شخص ظاهره السلامة من الأمراض، لا يظهر المرض فيه لعامة الناس، فينظر فيه أوّل نظرة، ويبدي رأيه إجمالاً: أن فيه مرض كذا، فإذا أجرى له الفحص والفَسْر والتحليل والأشعة والاختبار يظهر صدق قوله بوضوح.

كما قال نعيم بن حماد: ((قلت لابن مهدي: كيف تعرف صحيح الحديث من سقيمه؟ قال: كما يعرف الطبيب المجنون)) ().

فالأمر كما قال الحاكم: ((والحجة عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير، وليس لهذا العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة؛ ليظهر ما يخفى من علة الحديث)) ().

الفصل الرابع: مواضع العلة في الحديث

والمراد بالعلة هنا: السبب الخفي القادح في صحة الحديث.

يبدو لي أن العلة تجري في الحديث في جميع شروط الحديث الصحيح التي اشترطها الأئمة في تعريف الحديث الصحيح.

وهو: ما رواه عدل تام الضبط متصل السند غير معلل ولا شاذ. مع القول بأن العلة تدخل في أحاديث الثقات وهي خفية، فقد يكون الراوي مهملاً يوافق في اسم الثقة غير الثقة، أو من المتفق والمفترق، فيظن الناظر أن الواقع في السند غير الثقة.

وكذلك القول في تمام الضبط، فقد يكون مشتهراً بالضبط والتوثق ولكنه يكون قد أخطأ في حديث بذاته.

والضبط نوعان:

ضبط صدر: وهو أن يثبت ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء.

وضبط كتاب: وهو صيانة الراوي كتابه لديه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي أو يروي منه. وقُيد بالتام في تعريف الحديث الصحيح إشارة إلى الرتبة العليا في ذلك ().

وفي هذا الجانب أيضاً تدخل العلة في حديث الثقة، فالبشر مهما أوتي من حفظ وضبط وذاكرة قوية فقد يأبى الله أن تكون العصمة إلا لأنبيائه الذين عصمهم من الخطأ والزلل، وتأتي أمثلة لذلك إن شاء الله.

وضبط الكتاب قد يعتوره بعض الخلل في المقابلة والتصحيح، وقد يتمكن أحدٌ من المفسدين من كتاب الشيخ فيفسد عليه كتابه، ولذلك كانوا يبخلون عن إعارة كتبهم، وعدمُ إعارتهم للكتاب كان يعد مدحاً فيهم.

قال الإمام أحمد: قال أبو قطن (عمرو بن الهيثم) - وكان ثبتاً -: "ما أعرت كتابي أحداً قط" ().

وقال علي بن قادم: سمعت سفيان يقول: "لا تُعِرْ أحداً كتاباً". وقال الربيع بن سليمان: كتب إليّ البويطي: "احفظ كتبك، فإنه إن ذهب لك كتاب لم تجد مثله" ().

وكأن هذا -والله أعلم- خوفاً من ضياع الكتب، وكذلك من التغيير والتبديل.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير