وكذلك إذا كان الراوي أو التلميذ معاصراً، لكنه لم يلق الشيخ وهو في طبقة تلاميذ الشيخ فالانقطاع قد يخفى على الكثير. وكونه منقطعاً في هذه الصورة أمر واضح، إذا ثبت لدى الناس عامة أنه لم يلقه مطلقاً أما إذا كان إمكان السماع حاصلاً ولم نتيقن بسماعه من الشيخ، فإمكان عدم السماع أيضاً حاصل.
ولذا جعل الأئمة شرط البخاري في اشتراط ثبوت اللُّقِيِّ ولو مرة شرطاًًً أشد وأسد وأقوى من شرط مسلم الذي اكتفى بالمعاصرة.
ودع عنك قول من يقول: ليس ذلك شرط البخاري، فالأئمة كادوا أن يجمعوا على حكاية هذا القول ونسبته إلى البخاري وصنيعه في صحيحه يدل عليه كما يدل عليه عمله في تراجم الرواة في تواريخه، فلا يقال: إن الانقطاع علة ظاهرة لا خفية، فلا يكون علة من علل الحديث على اصطلاح القوم، فقد رأيت أنه قد يخفى الانقطاع، فيدخل في تعريف العلة التي هي القادحة الخفية.
وستأتي الأمثلة عليه في الباب الثاني إن شاء الله.
ويدخل في هذه الصورة ما إذا روي الحديث مرسلاً من وجه رواه الثقات الحفاظ، ويسند ويوصل من وجه آخر ظاهره الصحة، ففيه انقطاع خفي تدخل العلة فيه، وتخفى على كثيرين، ولا تظهر هذه العلة إلا للعالم الخبير بعد سبر الطرق المختلفة على الراوي الذي عليه مدار الرواية.
لأن الثقة قد يَهِمُ فيوصل المرسل، فيدخل الحديث في قسم الضعيف للانقطاع بين التابعي وبين النبي ?، ففقد شرط الاتصال على التعريف الراجح للمرسل وهو: ما أضافه التابعي إلى النبي ? ().
ولا يقال في تعريف المرسل: ما منه الصحابي سقط، لأنه لو تعين لنا أن الصحابي رضي الله عنه هو الساقط، لما ضُعّف المرسل، كأن يظهر من طرق أخرى ذكر التابعي للصحابي في هذه الرواية ذاتها، أو أن يصف التابعي الصحابي بوصف الصحبة كـ "عن صالح بن خوَّات، عمن صلَّى مع النبي ? يوم ذات الرقاع" ()، أو غزا مع النبي ?، أو وفد إلى رسول الله ?، فإن لم يصفه بالصحبة فلا يكون موصولاً، لاحتمال أن يكون المحذوف تابعياً آخر، فيحتمل أن يكون ضعيفاً، ويحتمل أن يكون ثقة، وعلى الاحتمال الثاني، يحتمل أن يكون حمل الرواية عن صحابي، ويحتمل أن يكون حمل عن تابعي آخر، وعلى الثاني فيعود الاحتمال السابق، ويتعدد إما بالتجويز العقلي فإلى ما لا نهاية له، وإما بالاستقراء فإلى ستة أو سبعة، وهو أكثر ما وُجِدَ من رواية بعض التابعين عن بعض ().
روى الذهبي في "معجم شيوخه" من طريق الإمام أحمد () قال حَدَّثنا عبدالرحمن بن مهدي عن زائدة عن منصور عن هلال بن يساف عن الربيع ابن خثيم عن عمرو بن ميمون عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن امرأة من الأنصار عن أبي أيوب عن النبي ? قال: أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فإنه من قرأ قل هو الله أحد في ليلة فقد قرأ ثلث القرآن.
ثم قال الذهبي: ((هذا حديث صالح الإسناد من الأفراد، ولا نعلم حديثاً بين أحمد بن حنبل وبين النبي ? فيه تسعة أنفس سواه، وهو مما اجتمع في سنده ستة تابعيون يروي بعضهم عن بعض.
وهذا لا نظير له، فإن منصور بن المعتمر معدود في صغار التابعين، وقد أخرجه الترمذي، والنسائي، من طريق زائدة، وحسنه الترمذي مع أنه معلل)) ().
6 - ومن أهم أسباب العلة: الشذوذ.
والشذوذ لغة: الانفراد، شذ عنه يَشِذُّ ويَشُذُّ شُذوذاً انفرد عن الجمهور ونَدَرَ فهو شاذ ().
وأمَّا في اصطلاح أهل الحديث فقد اختلف تعريف الشاذ في كتبهم.
قال الحاكم: ((فأَمَّا الشاذ فإنه حديثٌ يتفرد به ثقة من الثقات، وليس للحديث أصل متابِعٌ لذلك الثقة)) ().
فيظهر من تعريفه أن الشاذ هو الحديث الذي انفرد به الثقة خالف أم لم يخالف.
ولكن الذي يظهر لي: أن الحاكم أيضاً يشترط المخالفة في الشذوذ وذلك كما يأتي عن الشافعي وذلك لأمرين:
الأول: قوله: "ليس له أصل متابع" فكأنه قال: لم يخالف فلو كان له أصل متابع لما كان مخالفاً.
الثاني: أنه ذكر بعد تعريفه قول الشافعي -رحمه الله- مستشهداً به، فالذي يظهر أنه يشير إلى شرط المخالفة في الشاذ مثل الشافعي والله أعلم.
وعرفه الخليلي فقال: ((إن الشاذ ما ليس له إسناد إلا واحد، يشذُّ بذلك شيخ ثقة أو غير ثقة، فما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به ويرد ما شذ به غيره)) ().
¥