ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[23 - 02 - 10, 10:08 م]ـ
الخطبة الأولى
فالناس مُذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حط رحالهم إلا في الجنة أو في النار.
والعاقل يعلم أن السفر مبني على المشقة وركوب الأخطار، ومن المحال ـ عادة ـ أن يطلب فيه نعيم ولذة وراحة، إنما ذلك بعد انتهاء السفر.
وكل منا ينبغي أن يكون على الحال التي يحب أن يكون المسافر عليها، من تهيئة الزاد الموصل، وإذا نزل أو نام أو استراح فعلى قدم الاستعداد للسير.
يقول تعالى مبيناً حقيقة الدنيا: ?عْلَمُواْ أَنَّمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ?لاْمْو?لِ وَ?لاْوْلْـ?دِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ?لْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نٌ وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [الحديد:20].
ويقول: ((ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها)). [قال: أي نام وقت الظهيرة].
ونحن في سفرنا إلى الله تعالى نحتاج إلى معية الله تعالى وحفظه، والله تعالى يقول: إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّ?لَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128].
ورسول الله يقول: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك)).
ولكن, كيف نتقي الله تعالى؟ وكيف نحفظه سبحانه في وسط هذا الخضم الهائل من الفتن؟
إن الأمر يحتاج إلى الصبر الجميل والعمل المتواصل، فكل هذه الفتن اختبار من الله تعالى لعباده المؤمنين ليرى أنثبت أم ننهار؟
يقول تعالى: وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
لقد علق الله تعالى الهداية بالجهاد، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا.
فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد.
إن الفتن من حولنا, ولا نجاة لنا منها إلا بفضل الله تعالى، ولا ينجو إلا العاقل المستعصم بالله عز وجل، الذي ينظر إلى الشهوات نظرة صحيحة, فما عند الله خير وأبقى، وأي شهوة في الدنيا -تختلط بالألم، ويعقبها ندم- فهي مهما كانت تمل مع الدوام.
أما جنة الخلد، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نعيم مقيم لا يفنى ولا يُمَل.
والعاقل يعلم أن الصبر عن الشهوة أسهل من ألم عقوبتها، نعم, الصبر عليها أيسر من عقوبتها.
فالشهوة إما أن توجب ألمًا وعقوبة، ـ أيًا كانت هذه العقوبة، ولو كانت بحمل غير متوقع أو بمشاجرات على الفتيات ـ وإما أن تقطع لذة أكمل منها، مثلاً, لذة العقل خير من لذة إذهابه بالخمر، والمتعة الحلال أكمل من الزنا بالحرام, وإما أن تضيع وقتًا يكون عليك حسرة وندامة، وانظروا إلى العصاة كيف يبعثرون أوقاتهم في المباح والحرام، ويوم القيامة الكل سوف يندم، المحسن والمسيء.
وإما أن تثلم عرضًا ـ أي تكسره وتنتهكه ـ توفيره أنفع للعبد من ثلمه [كما تدين تدان].
وإما أن تذهب مالاً بقاؤه خير من ذهابه، وكم رأينا دفع الأموال في الحرام ثم حينما يشح المال يندم المفلس.
وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
وإما أن تجلب همًا وغمًا وحزنًا وخوفًا أضعاف لذة الشهوة وإن ضحك بملء فيه، فالسعادة محلها القلب.
وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة ((وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه))، فماذا بقي للعاقل؟
نعم, العاقل يعلم أن ألم مقارفة المعصية أضعاف ألم مفارقتها، وأنه من شؤم المعصية المعصية بعدها، ومن يمن الطاعة الطاعة بعدها، المؤمن يعلم أن الله مطلع عليه يستحي أن يبارزه بالمعاصي.
جاء رجل إلى الإمام أحمد بن حنبل فقال له: إني سمعت أبياتًا قالها إمام مسجد الحي أريد أن تعطيني فيها رأيًا، فقال: وما هي؟ قال الرجل: قال إمام المسجد:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب
لهونا لعمرو الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب
فقام الإمام أحمد بن حنبل من مجلسه ولم ينطق بكلمة حتى دخل داره وأغلق عليه بابه، وسُمع من وراء الباب نحيبه وبكاؤه والأبيات يرددها:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب
فمن منّا إذا ماخلا يقول ذلك فلا يعصي الله؟
فعلينا جميعًا أن نستشعر شهود الله لأعمالنا نستحي منه، وأن نترك كل ما ألِفناه ... من أعمال سيئة لله تعالى، فالذي يترك الحرام لإرضاء الله تعالى صادقًا مخلصًا من قلبه فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة ليمتحن أصادق هو في توجهه لله أم كاذب؟
فإن صبر على تلك المشقة قليلاً استحالت لذة، فمن ترك لله شيئًا عوضه الله خيرًا منه.
وفقنا الله جميعًا لما يحبه ويرضاه.
التائب حبيب الرحمن، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
¥