ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[23 - 02 - 10, 10:09 م]ـ
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقو الله ـ أيها المسلمون ـ حق التقوى، فالأعمار تطوى، والأجيال تفنى، والآجال تُقضى، والمؤمِّل يقعد به أمله، والمسوّف يعاجله أجله، فاتقوا الله وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.
أيها المؤمنون، في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحن وبلايا، آلامٌ تضيق بها النفوس، ومزعجات تورث الخوف والجزع، فكم ترى من شاكٍ، وكم تسمع من لوّام، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214].
هذه هي حقيقة الدنيا في ابتلائها، تُضحك وتُبكي، وتجمع وتُشتّت، شدة ورخاء، وسراء وضراء، ودار غرور لمن اغتر بها، وموطن عبرة لمن اعتبر بها.
أمة الإسلام، لقد كانت هذه الأمة أمةً رائدة في الأمم قائدةً للناس، أقامت العدل ورفعت الظلم وأشاعت الرحمة، ولقد ظل العالم الإسلامي بأسره مئات الأعوام وهو متجانس متماسك يشدّ بعضه أزر بعض، ويؤازر الكل العقيدة الإسلامية الجامعة كلما هدد كيانه خطر أو ادلهم خطب. ومنذ أن فقدنا الأندلس وقع تغيُّرٌ رهيب في حياته وأخذت أرضه تنقص من أطرافها، ففقدت أقطار وأمم، وانتهكت مقدسات ومحارم، ودارت رحى الحرب على المسلمين، ودبَّ الضعف إلى جسد الأمة حتى أصابه الهوان والمذلة، ونزعت هيبتها من قلوب أعدائها، دماءٌ تراق، وأعراضٌ تنتهك، وبيوت تهدم، وألوف تشرد، بُقِرت بطون، واندلقت أحشاء، أبيدت أسر، وسلب وطن، إرهابهم لا يفرق بين شيوخٍ ركع ولا نساءٍ عُزّل ولا أطفال رُضّع، ما أرخص دماء المسلمين! وما أشدّ ما نزل بهم من أهوال! وما أعظم ما حلّ بهم من هوان! صور متكررة لواقع واحد.
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصا جناحاه
كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يحكمنا شعب ملكناه
أيها المسلمون، وهنا يأتي السؤال، نعم السؤال الذي يفرض نفسه وبقوة على واقع المسلمين اليوم: لِمَ لا نبحث عن أسباب هزائمنا وذهاب مقدساتنا؟! هل السببُ عوج خلقي أو خلل سياسي أو اقتصادي أم غشٌ ثقافي أو انحراف عقدي أم هو مزيج متفاوت من هذه العلل جميعا؟! ما المعاصي الخلقية والسياسية والثقافية التي ارتكبها أهل الإسلام فأصابهم ما أصابهم بسببها؟!
أمة الإسلام، لقد حام حول هذا الموضوع كثير من المصلحين الذين يريدون للأمة الخير، فمن مقرّب ومن مبعّد، كثرت الأقوال، وارتفعت الشعارات، وعُقدت المؤتمرات، وسُطّرت الكتابات، ولكن لم نَرَ شيئًا مع هذا كلّه، إذن ما العلة؟ وأين العلاج؟
أتريد ـ أخي المسلم ـ أن تعرف العلة والعلاج؟! تأمل في هذين الحديثين:
روى أحمد وأبو داود أن رسول الله قال: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها))، قالوا: أمن قِلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن))، قالوا: وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)).
وعند أبي داود من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذ تبايعتم بالعِينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرّع وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم)).
فهذا هو السبب، وهذه هي العلة، وذلك هو الوهن؛ حب الدنيا، وكراهية الموت، وترك الجهاد، أن يعيش الناس عبيدًا لدنياهم عُشاقًا لها، تحرّكهم شهواتها وتسيّرهم رغباتُها.
إن سبب ضعف المسلمين وما بهم من هوان وسبب كلّ بلاء وفتنة هو حب الدنيا والحياة وكراهية الجهاد والموت، وهذا يولّد الذنوب والمعاصي والبعد عن الالتزام بأوامر الله وتحكيم شرعه ودينه.
لما تركنا الهدى حلّت بنا محنُ وهاج للظلم والإفساد طوفانُ
¥