والواقع أن أقوالهم في تحرير موضع النزاع في هذه المسألة ينطوي على كثير من التضارب.
فأبو الحسين يرى أن القياس إن ثبتت علته بنص قطعي، قُدم على الخبر؛ لأن النص على العلة كالنص على حكمها، وهو مقطوع به. والخبر مظنون، فكانت مقدمة.
وإن ثبتت العلة بنص ظني، وكان حكمها في الأصل مظنوناً، قُدم الخبر على القياس. لاستواء النصين في الظن. واختصاص خبر الواحد بالدلالة على الحكم بصريحه من غير واسطة. بخلاف النص الدال على العلة، فإنه إنما يدل على الحكم بواسطة العلة.
وأما إذا كان حكم الأصل مقطوعاً به، فذلك موضع اجتهاد.
وأما إن كانت العلة مستنبطة من أصل ظني فإنه يُقدم الخبر اتفاقاً؛ لأن الظن كلما كان أقوى؛ والاحتمال أقل، كان أولى بالاعتبار. وذلك حاصل في الخبر.
وأما إن كانت العلة مستنبطة من أصل قطعي، فذلك موضع الاختلاف بين الناس.
وهكذا حصر أبو الحسين البصري الخلاف في صورة واحدة من صور القياس الظني. وهو القياس الذي ثبتت علته بطريق الاستنباط من أصل مقطوع به.
ويرى التاج السبكي أن الخبر والقياس إذا تنافيا من كل وجه: نُظر في مقدمات القياس؛ فإن كانت ثابتة بدليل قطعي، قُدم القياس على خبر الواحد. وذلك واضح. وإن لم تثبت بدليل قطعي، بأن كانت كلها ظنية، قُدم الخبر على القياس.
وإن كان بعضها قطعياً، وبعضها ظنياً، فذلك محل الخلاف.
وهذا ما يسميه الحنفية بدلالة النص. وعند الجمهور مفهوم الموافقة أو فحوى الخطاب أو القياس الجلي.
وليس الكلام في هذا. ولا خلاف في أن ذلك يُقدم على خبر الآحاد؛ لأنه أقوى ثبوتاً، لكون الثبوت فيه بالقطعي. وإنما الخلاف في القياس الظني المأخوذ من أصل قطعي.
واختار السيف الآمدي وتبعه ابن الحاجب والفهري من المالكية والكمال بن الهمام والمحب ابن عبد الشكور من الحنفية تقديم الخبر على القياس في الحالتين:
الحالة الأولى: أن تكون علة القياس منصوصاً عليها بنص مساوٍ في الدلالة لخبر الواحد أو مرجوح عنه.
الحالة الثانية: أن تكون العلة مستنبطة، فيُقدم الخبر على القياس مطلقاً.
ويُقدم القياس في حالة واحدة، وهي: ما إذا كانت العلة ثابتة بنص راجح على الخبر في الدلالة. وكان وجودها في الفرع مقطوعاً به. وأما إن كان وجودها مظنوناً، فالتوقف.
ونستطيع القول بعد استعراض هذه الأقوال أن القياس القطعي سواء كان أوليا أو مساويا فهو خارج عن محل النزاع. ومقدم على الخبر اتفاقا.
وأن القياس الظني منه ما هو خارج عن محل النزاع؛ وهو ما إذا كانت جميع مقدماته ظنية، وكانت علته ثابتة بطريق الاستنباط من أصل ظني. فإن الخبر مقدم عليه اتفاقاً.
المبحث الثالث: مذاهب الفقهاء في معرضة القياس خبر الآحاد:
المذهب الأول: ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين أبي حنيفة والشافعي وأحمد إلى تقديم خبر الواحد إذا ثبتت صحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على القياس مطلقاً.
(لم أذكر ما استدلوا به لأنه خارج عن مقصود البحث)
المذهب الثاني: ذهب عيسى بن أبان وأبو زيد الدبوسي وعامة متأخري الحنفية إلى اشتراط فقه الراوي لتقديم خبره على القياس.
وجعلت هذا المذهب خاصاً به وبأصحابه دون من سواهم. حتى اشتهر في سائر الكتب
أن تقديم القياس على الخبر مما انفرد به دار الهجرة عن سائر الأئمة.
المبحث الرابع: موقف المالكية من مخالفة الخبر للقياس:
يكتنف موقف المالكية من الخبر إذا خالف القياس غموض والتباس في أمرين:
أحدهما: النقل المضطرب عنهم في المسألة.
الثاني: مرادهم بالقياس: القياس الاصطلاحي أو القياس بمعنى القواعد والأصول.
الأمر الأول: التضارب في النقل:
أ- فالعراقيون من أصحابه يقولون: مشهور مذهبه تقديم القياس على الخبر.
حكاه ابن القصار عن مالك، ونسبه إلى بعض المالكية وانتصر له. ونص الباجي على أنه اختيار أكثر الأصحاب. وأبو العباس القرطبي في المفهم على أنه قول مالك في العتبية، وفي مختصر ابن عبد الحكم. ورجحه القرافي في التنقيح.
ب- أما المدنيون من أصحابه، فقد رووا عنه تقديم الخبر على القياس. وهو الذي ارتضاه الباجي في المنتقى والإحكام. والرهوني في تحفة المسؤول. وقوى القاضي عياض أنه مشهور المذهب ومعروفه.
¥