المعنى الأول: القياس الأصولي: وهو الأصل الرابع من أصول الأدلة بعد الكتب والسنة والإجماع. وهو الدليل المنتزع من الأصول. وهو أصل الرأي، وينبوع الفقه. ومنه تتشعب الفروع وعلم الخلاف.
وهو المقصود عند إطلاق لفظ القياس عند الفقهاء وأرباب الأصول.
وتعريفه: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما. أو نفيه عنهما، بأمر جامع بينهما.
والقياس عند الجمهور حجة شرعية يجب العمل بها عند فقد النص؛ لتضافر الأدلة السمعية على ذلك. وإجماع الصحابة على العمل بمقتضاه في وقائع لا تُحصى.
المعنى الثاني: القياس بمعنى القواعد والأصول المقررة شرعاً:
والمراد ما تعاضدت عليه عمومات نصوص الكتاب والسنة. وشهد له كثير من الأدلة والفروع، حتى أصبح أصلاً وضابطاً تُعرض عليه المسائل الجزئية.
ويصدق هذا الضرب من القياس على بعض الاحكام الشرعية المستثناة من القواعد العامة للرفق والحاجة. مثل: السَّلم، والإجارة، والحوالة، والعرايا، والمساقاة، فتجد في كتب الفقه أن الإجارة وردت على خلاف القياس، .... أي على خلاف القاعدة العامة، فالإجارة خالفت قاعدة: الغرر، وبيع ما لم يُخلق. والعرايا خالفت قاعدة: المعروف المستثناة من المغابنة.
وقد نرى بعض المالكية يستعملون القياس في هذا المعنى- أي الأصل والقاعدة- كالإمام المازري وابن رشد الحفيد وأبو العباس القرطبي.
على أن اعتبار ورود هذه الأحكام – السَّلم والإجارة وما يُشبهها- على خلاف القياس، ليس محل اتفاق العلماء. بل هي في نظر البعض أصول بنفسها. وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالحديث- في رأي هؤلاء- إذا ثبت صار أصلاً في نفسه، ووجب الحكم به، وإن كان مخالفاً لمعاني أصول سائر الأحكام.
فهذا الحافظ ابن عبد البر يقول في حديث التفليس: وهذه السنة أصلٌ في نفسها، فلا سبيل أن تُرد إلى غيرها، لأن الأصول لا تُقاس. وإنما تنقاس الفروع رداً على أصولها.
وهذا ما قرره أبو مظفر السمعاني في قواطع الأدلة، وابن العربي في أحكام القرآن.
وقد كتب في هذا الموضوع ابن تيمية فصولاً ممتعة، شدد فيها النكير على أرباب هذه المقالة.
هذا وإن التفريق بين المعنيين المذكورين للقياس لم يكن واضحاً في كتابات الأصوليين: المتقدمين منهم والمتأخرين. إلا كلاماً للمحقق البناني المالكي في تعليقه على قول المحلي- وهو يشرح كلام ابن السبكي في جمع الجوامع- فقال: هذا يقتضي أن المراد بالقياس: القاعدة والأصل.
وهذا يزكي القول باضطراب كلام الأصوليين في القياس المقدم عند مالك على أخبار الآحاد عند التعارض.
المبحث الثاني: متى تتحقق المعارضة بين خبر الآحاد والقياس؟
الإجابة على هذا السؤال تتوقف على تحرير محل النزاع بين العلماء في القياس الذي يقوى على معارضة الأخبار.
والواقع أن أقوالهم في تحرير موضع النزاع في هذه المسألة ينطوي على كثير من التضارب.
فأبو الحسين يرى أن القياس إن ثبتت علته بنص قطعي، قُدم على الخبر؛ لأن النص على العلة كالنص على حكمها، وهو مقطوع به. والخبر مظنون، فكانت مقدمة.
وإن ثبتت العلة بنص ظني، وكان حكمها في الأصل مظنوناً، قُدم الخبر على القياس. لاستواء النصين في الظن. واختصاص خبر الواحد بالدلالة على الحكم بصريحه من غير واسطة. بخلاف النص الدال على العلة، فإنه إنما يدل على الحكم بواسطة العلة.
وأما إذا كان حكم الأصل مقطوعاً به، فذلك موضع اجتهاد.
وأما إن كانت العلة مستنبطة من أصل ظني فإنه يُقدم الخبر اتفاقاً؛ لأن الظن كلما كان أقوى؛ والاحتمال أقل، كان أولى بالاعتبار. وذلك حاصل في الخبر.
وأما إن كانت العلة مستنبطة من أصل قطعي، فذلك موضع الاختلاف بين الناس.
وهكذا حصر أبو الحسين البصري الخلاف في صورة واحدة من صور القياس الظني. وهو القياس الذي ثبتت علته بطريق الاستنباط من أصل مقطوع به.
ويرى التاج السبكي أن الخبر والقياس إذا تنافيا من كل وجه: نُظر في مقدمات القياس؛ فإن كانت ثابتة بدليل قطعي، قُدم القياس على خبر الواحد. وذلك واضح. وإن لم تثبت بدليل قطعي، بأن كانت كلها ظنية، قُدم الخبر على القياس.
وإن كان بعضها قطعياً، وبعضها ظنياً، فذلك محل الخلاف.
وهذا ما يسميه الحنفية بدلالة النص. وعند الجمهور مفهوم الموافقة أو فحوى الخطاب أو القياس الجلي.
¥