اعتقد حرمة الكذب@ (35).
وقال ابن حجر بعد ذكر القولين: (والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعته لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة وقد تبالغ فتكفر مخالفيها فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف. فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمراً متواتراً من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة وكذا من اعتقد عكسه. فأما من لم يكن بهذه الصفة وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه من روعه وتقواه فلا مانع من قبوله (36).
وكذلك المبتدع الذي يستحل الكذب ولا تقبل روايته أبداً. قال أحمد شاكر: (وهذا القيد -أعني عدم استحلال- الكذب- لا أرى داعياً له، لأنه قيد معروف بالضرورة في كل راوٍ، فإنا لا نقبل رواية الراوي الذي يعرف عنه الكذب مرة واحدة فأولى أن نرد رواية من يستحل الكذب أو شهادة الزور) (37).
فأما إذا توفرت فيه صفات القبول فما الحكم؟ الذي يظهر لي من خلال الأقوال المذكورة أن الجمهور قد اتفقوا على أن رواية المبتدع -إن لم يكن داعياً إلى بدعته- تقبل (38).
وانفرد الجوزجاني وابن قتيبة فاشترط شرطاً آخر، وهو أن لا يكون في روايته- أي المبتدع حتى غير الداعية- ما يؤيد بدعته. قال الجوزجاني: (ومنهم زائغ عن الحق -أي عن السنة- صادق اللهجة فليس فيه حيلة إلا أن يؤخذ من حديثه ما لا يكون منكراً إذا لم تقو به بدعته) (39).
وقال ابن قتيبة: (إنما يمنع من قبول قول الصادق فيما وافق نحلته وشاكل هواه أن نفسه تريه أن الحق فيما اعتقده وأن القربة إلى الله عز وجل في تثبيته بكل وجه. ولا يؤمن مع ذلك التحريف والزيادة والنقص).
ويناقش كلٍّ منهما بما يلي:
(1) إن جمهور الأئمة لم يشترطوا هذا الشرط.
(2) إن وقع الكذب لصالح العقيدة أو التحريف أو الزيادة أو النقص من قبل بعض أهل الأهواء، فهذا لا يكفي لاتهام الجميع بذلك فقد وجد مثل ذلك بين أهل السنة أيضاً حتى في أهل المذاهب لتأييد مذاهبهم فهل هذا يستلزم أن يرد كل ما يرويه الحنفي أو الشافعي مثلاً وفيه تأييد لمذهبه. ومن ثبت عنه تعمد ذلك لما ثبت له العدالة أصلاً فترد جميع مروياته.
(3) إن أئمة الحديث يشترطون في قبول رواية أي رجل أن يكون عدلاً ضابطاً. والعدالة هي الملكة في النفس تمنع الناس من اقتراف الكبائر ومنها الكذب مع السلامة من خوارم المروءة فإذا ثبتت هذه الملكة في رجل ما بشهادة أئمة الحديث والنقد الذين هم عليهم مدار الجرح والتعديل فوجب قبول روايته ولا وجه للفرق بين ما يقوي بدعته وما لا يقويها فإن العدل عدل في كل. فإن هناك شك في عدالته وجب أن ترد جميع مروياته بدون تفريق بين بعضها دون بعض. ولو كان الأمر كما قالا لما صح أن يروي أحد ما يؤيد رأيه ومذهبه سواء كان من أهل السنة أو المبتدعة.
فالخلاصة أن المدار في قبول الراوي هو العدالة والضبط بغض النظر عن عقيدته أو مبدئه -إلا إذا خرج عن الإسلام- وعلى هذا جرى عمل كثير من العلماء قديماً وحديثاً. ولعل الأئمة الذين نهوا عن الأخذ عن المبتدعة إنما نهوا للمصلحة لأن في الرواية عنهم رفعاً لشأنهم وتقديراً لهم ولا شك أن له ضرراً كبيراً على العامة لا سيما إذا كان الرجل من الدعاة.
وقد احتج البخاري بعمران بن حطان الداعية الخارجي. واحتج الشيخان بعبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني وكان داعية إلى الإرجاء (40).
وقال الخطيب البغدادي: (والذي يعتمد عليه في تجويز الاحتجاج بأخبارهم (أي أهل البدع والأهواء) ما اشتهر من قبول الصحابة أخبار الخوارج وشهاداتهم ومن جرى مجراهم من الفساق بالتأويل ثم استمرار عمل التابعين والخالفين بعدهم على ذلك. لما رأوا من تحريهم الصدق وتعظيمهم الكذب وحفظهم أنفسهم من المحظورات من الأفعال وإنكارهم على أهل الريب والطرائق المذمومة ورواياتهم للأحاديث التي تخالف آرائهم ويتعلق بها مخالفوهم في الاحتجاج عليهم. فاحتجوا برواية عمران بن حطان وهو من الخوارج وعمرو بن الدينار وكان ممن يذهب إلى القدر والتشيع وكان عكرمة إباضياً وابن أبي نجيح وكان معتزلياً ... في خلق كثير يتسع ذكرهم دون أهل العلم قديماً وحديثاً رواياتهم. واحتجوا بأخبارهم فصار ذلك كالإجماع منهم. وهو أكبر الحجج في هذا الباب وبه يقوى الظن في مقاربة الصواب (41).
وقد ذكر الخطيب عدة أقوال لأئمة الحديث في هذا الباب منها:
¥