أمته ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. وهذه الفرقة الناجية والطائفة المنصورة هي التي بقيت
موصولة بالعهد القديم والنهج القويم، مستمسكة بحبل الله المتين متبعة صراطه المستقيم، مستضيئة بنور السنة والكتاب
، مستنيرة بمنهج الأصحاب، قائمة بما أمر الله به من النصح والبيان والجهاد باليد واللسان والبنان.
ولقد سطر التاريخ حوادث متنوعة ووقائع متعددة من جهاد سلف هذه الأمة الخيرة، لدعاة البدع والأهواء مع ظهور أول
بدعة في الدين، بدعة التكفير التي أسسها الخوارج، فقام الصحابة بواجب الرد والإنكار، فجادلهم حبر هذه الأمة عبدالله
بن عباس رضي الله عنهما وحاجهم، فهدى الله به جماعة منهم، وأصر الباقون على بدعتهم فقاتلهم الصحابة في وقعة
مشهورة.
ورد علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الشيعة بدعتهم، ولما أصر غلاتهم على الكفر حرقهم بالنار ليكونوا عبرة لأولي
الأبصار.
وأنكر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما على معبد الجهني رأس القدرية وتبرأ منه ومن بدعته.
وأنكر الحسن البصري رحمه الله في عصر التابعين، على واصل بن عطاء رأس المعتزلة، وهجره وأمر بعزله عن
مجلسه.
ولما ظهر الجعد بن درهم رأس علماء الكلام وأول من قال بخلق القرآن، أنكر عليه وهب بن منبه وغيره من الأئمة
وحذروه.
فلما أصر على كفره ضحى به خالد بن عبدالله القسري.
وناظر الإمام الشافعي رحمه الله بشراً المريسي رأس الجهمية في وقته، وكفره أكثر الأئمة، وألف في الرد عليه الإمام
عثمان الدارمي.
ولما صار للمعتزلة الجهمية صولة وسطوة في عهد المأمون الذي تبنى بدعتهم ودعا إليها وامتحن الناس عليها، وقف
الأئمة منها موقفاً مشرفاً وعلى رأسهم إمام أهل السنة في عصره بلا منازع أحمد بن حنبل رحمه الله ورضي عنه، وقد
ألف فيهم كتابه المشهور " الرد على الجهمية والزنادقة ".
ولم يزل دأب أئمة السلف في الرد على أهل البدع والأهواء والتصدي للمخالفين عبر تلك القرون الطويلة، خاصة بعد
حدوث النحل الخبيثة، القرامطة والباطنية والفلاسفة الملاحدة، وهذه الفرق هي أشد نكبة نكب بها الإسلام وأهله منذ أن
خلق الله الخليقة إلى يومنا هذا، وقد قيض الله لها من يردها ويدحرها وينتصر للسنة وأهلها، إماماً عبقرياً من أئمة
الهدى، وهو شيخ الإسلام أحمد بن تيمية عليه رحمة الله فناظرهم وجادلهم وحاجهم وألف في الرد عليهم وكشف زيفهم
وباطلهم وله في الرد على كل الفرق المخالفة والمذاهب المنحرفة، مؤلفات عديدة، فكان بحق إمام أهل السنة في عصره
وحامل لواء الذب عن عقيدة السلف والدفاع عن حوزة السنة والدفع في وجه كل بدعة مضلة.
ولا تزال مصنفات ذلك الإمام الفذ ورسائله في كل فن، وخاصة في تقرير مذهب السلف والرد على المخالفين، هي المرجع
الأساس لكل من جاء من بعده من علماء الأمة.
ومن أجل ذلك عاداه أصحاب تلك النحل الفاسدة واجتمعوا عليه وتكالبوا ورموه عن قوس واحدة، ولما أعجزهم في مقام
الحجة والبيان والمناظرة لجأوا إلى مثل ما لجأ إليه أعداء الرسل حين تنقطع منهم الحجة ويخرسهم منطق الحق (قالوا
حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين).
وتفصيل الكلام على جهاد ذلك الإمام الهمام وردوده ومناظراته مع المخالفين لا تكفيه هذه الأسطر، ولا مئات الأسطر،
ويكفينا الإشارة إلى بعضها، على سبيل المثال لا الحصر: فقد رد على غلاة المتصوفة وكفرهم، كابن عربي والحلاج وابن
الفارض والعفيف التلمساني، ورد على الفلاسفة، كابن سينا والفارابي، وعلى الأشاعرة، كالرازي والباقلاني وأبي
حامد الغزالي، وغيرهم.
وظل الجهاد ماضياً بين أهل السنة والمخالفين، يقوى تارة ويفتر أخرى، إلى أن جاء عهد قويت فيه شوكت البدع
وسرت في الأمة سريان النار في الهشيم، وبلغ الجهل بالدين مبلغاً يندى له الجبين، فعبدت الأصنام والأشجار والأحجار،
وذبح عندها القرابين، وانتهكت المحارم وظهرت الفواحش والمنكرات وغدت أمور الدين وأركانه وفرائضه لدى كثير من
أبناء المسلمين نكرة من النكرات.
فقيض الله لهذه الأمة شيخ الإسلام، الإمام المصلح الرباني، محمد بن عبدالوهاب التميمي، الذي جدد الله به الدين ونصر
¥