ثم ساق رحمه الله الأحاديث السابقة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، ثم قال: (وبالجملة: فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصده جزم جزماً لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه باللعن والنهي بصيغتيه: صيغة "لا تفعلوا " وصيغة " إني أنهاكم " ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه وقل نصيبه أو عدم في تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله. فإن هذا وأمثاله من النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه.
فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكاباً لنهيه وغرهم الشيطان فقال: بل هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشد لها تعظيماً، وأشد فيهم غلواً، كنتم بقربهم أسعد ومن أعدائهم أبعد).
قال ابن القيم: (ولعمر الله، من هذا الباب بعينه دخل على عباد يغوث ويعوق ونسر، ومنه دخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة. فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم.
وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم، وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها: من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم، وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم. فأما المشركون فعصوا أمرهم، وتنقصوهم في صورة التعظيم لهم).
ثم قال: (ومن جمع ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضاداً للآخر، مناقضاً له، بحيث لا يجتمعان أبداً.
أ- فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة الى القبور، وهؤلاء يصلون عندها.
ب- ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد، مضاهاة لبيوت الله تعالى.
ج - ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها.
د- ونهى أن تتخذ عيداً، وهؤلاء يتخذونها أعياداً ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.
هـ – وأمر بتسويتها، وهؤلاء يرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب.
والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور، المتخذينها أعياداً، الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب، مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، محادون لما جاء به، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها، وهو من الكبائر).
ثم قال - رحمه الله -: (وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجاً، ووضعوا له مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً وسماه "مناسك حج المشاهد" مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام.
فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده، من النهي عما تقدم ذكره في القبور وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه. ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره.
فمنها: تعظيمها الموقع في الافتتان بها، ومنها اتخاذها عيداً، ومنها السفر إليها، ومنها مشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وسدانتها. ومنها اعتقاد المشركين بها أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء ويستنزل غيث السماء، وتفرج الكروب وتقضي الحوائج وينصر المظلوم ويجار الخائف .. إلى غير ذلك.
ومنها الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها. ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها. ومنها إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم، فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهية) انتهى ملخصاً.
وقال الإمام النووي في "شرح مسلم" (5/ 13 - 14): " قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية.
¥