ولقد كان المشركون الأولون يعبدون الله ويدعونه ويلجأون إليه ويجأرون كما أخبر الله عنهم وهو أصدق القائلين، فقال: (وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون. ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون) (النحل: 53 - 54).
وقال سبحانه: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين. بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون) (الأنعام: 40 - 41).
وقال سبحانه: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه، ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله، قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار) (الزمر: 8).
والآيات في معنى ذلك أكثر من أن تحصر. والمقصود أنهم كانوا يعبدونه سبحانه ويلجأون إليه في الملمات، بل يخلصون له في الدعاء والقصد والرجاء لكشف الضر وتفريج الكربات.
ومع ذلك فقد حكم عليهم بالشرك والكفر والضلال وجعل مصيرهم إلى النار، دار البوار، لأنهم يشركون معه غيره من الأنداد ويدعونهم ويسألونهم في غير الشدائد من الأوقات.
أما المخالف فقد وحَّد معبوده من دون الله في كل الملمات وأخلص له الدعاء والرجاء والالتجاء، إذ قال: "هذا نزيلك أضحى لا ملاذ له، إلا جنابك يا سؤلي ويا أملي". وهذا الأسلوب أيضاً يدل على الحصر والقصر والاختصاص وهو النفي مع الاستثناء (لا، إلا).
ومثله أيضاً قوله: "فليس لنا يا رسول الله شفيع غيرك نؤمله ولا رجاء غير بابك نصله".
وقوله: "فالآن ليس سوى قبر حللت به، منجى الطريد وملجا كل معتصم".
ولقد كان يكفيه أن يدعو إلهه من دون الله ويلجأ إليه ويسأله بعض ما يرجوه، ليكون في عداد المشركين، لكنه أبى إلا الإيغال في الكفر والشرك، فصرف كل العبادة للعبد المخلوق، فقال:
فلذ به في كل ما تشتكي ... فهو شفيع دائماً يقبل
ولذ به في كل ما ترتجي ... فإنه المأمن والمعقل
وفي هذا دليل على أن شرك المخالف ومن شاكله من المخالفين، أعظم من شرك الأولين، وسيأتي ما يؤكده في الفصول التالية، إن شاء الله.
وحتى يكتمل عقد الموافقة والمطابقة لشرك الأولين، ها هو ذا يدعو صراحة إلى عبادة الأصنام واتخاذها آلهة من دون الله، لكن بصورة أخرى أعجب وأغرب من تلك الصورة الساذجة القديمة، والحق أنها من أعجب ما وقفت عليه من بدع المخالفين، على كثرتها واختلافها وتباينها.
نعم، يوجد ما هو أشد منها كفراً، وأعظم خطراً، لكن هذه البدعة امتازت بغرابتها وسخافتها وشذوذها عن سائر البدع.
أرادوا أن ينحتوا صنماً على صورة النبي صلى الله عليه وسلم، كما فعل المشركون بعظمائهم، فعجزوا عن تصوير وجهه الكريم وجسده الشريف، فانحطوا إلى النعال، ثم عجزوا كذلك، فأوحى إليهم شيطانهم أن يلجأوا إلى الخيال، ففعلوا .. وكان المثال.
وما أدراك ما المثال؟
هو خيال تخيله شيطان لهم لصورة تماثل النعل النبوي، ثم صيَّر ذلك الخيال واقعاً وخطَّه ورسمه، ثم جعل يدعوه ويستغيث به ويستعينه ويسترحمه.
فأراد المخالف أن يتحف هذه الأمة التي أصيبت في دينها وإيمانها، ونكبت في دمائها وأعراضها، وادلهمت بها الخطوب، وتوالت عليها المحن، وتداعت عليها الأمم، فدلهم على ذلك الحصن الحصين الذي ينجيهم من كل كرب ويمنع عنهم كل عدوان وظلم ويمنحهم الأمان والأمن.
فقد عقد المخالف فصلاً من كتاب "الذخائر" بعنوان "اهتمام العلماء بمثال نعل النبي صلى الله عليه وسلم " قال فيه ("الذخائر" (ص263 - 266)): "اهتم بذلك الأئمة الفحول وصنف فيها رسالة خاصة الشيخ المقري، وذكر لها أمثلة وكتب عنها كلمات جليلة مهمة، خلاصتها:
اعلم أرشدني الله وإياك إلى سواء السبيل وأوردنا مع الرعيل الأول مناهل الرحيق والسلسبيل، أن جماعة من الأئمة المغاربة المقتدى بهم تعرضوا للمثال الطاهر وحسنه الباهر وأقروا بمشاهدته عين الناظر .. ".
إلى أن قال: " قال الإمام المقري: وقد بلغني عن بعض الأغمار، ممن هو كمثل الحمار، أنه أنكر تصويري الأمثلة الشريفة ذات الظلال الوريفة، قائلاً كيف تنهون عن الصور وأنتم تفعلونها؟
فقلت لمن بلغني عنه ذلك: قل له وأنتم لم تتكلمون في الأمور التي تجهلونها؟ وليس هذا من تلك الصور، لا في ورد ولا صدر .. ".
¥