و في "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عدّ الكبائر؛ فذكر: "الشرك بالله و عقوق الوالدين، و السحر، و اليمين الغموس، و قذف المحصنات الغافلات المؤمنات".
و ذكر منها: "الفرار من الزحف في الصفّين".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "شر ما في المرء: شُحٌّ هالع، أو جُبنٌ خالع".
و أما دلالة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك فمن وجوه كثيرة:
منها: أن المسلمين يوم بدر كانوا ثلاثمائة و بضعة عشرة و كان عدوهم بقدرهم ثلاث مرات أو أكثر، و بدر أفضل الغزوات و أعظمها.
فعُلِم: أن القوم يُشرع لهم أن يقاتلوا من يزيدون على ضِعفهم، و لا فرق في ذلك بين الواحد و العدد، فمُقاتلة الواحد للثلاثة كمقاتلة الثلاثة للعشرة.
و أيضا: فالمسلمون يوم أحد كانوا نحوا من ربع العدو؛ فإن العدو كانوا ثلاثة آلاف أو نحوها، و كان المسلمون نحو السبعمائة أو قريبا منها.
و أيضا: فالمسلمون يوم الخندق كان العدو بقدرهم مرات، فإن العدو كان أكثر من عشرة آلاف، و هم الأحزاب الذين تحزَّبوا عليهم من قريش و حلفائها و أحزابها الذين كانوا حول مكة و غطفان و أهل نجد و اليهود الذين نقضوا العهد و هم بنو قريظة جيران أهل المدينة، و كان المسلمون بالمدينة دون الألفين.
و أيضا: فقد كان الرجل وحده على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يحمل على العدو بمرأى من النبي صلى الله عليه وسلم، و ينغمس فيهم، فيقاتل حتى يُقتل و هذا كان مشهورا بين المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم و خلفائه.
و قد روى البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة قال:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط عينا، وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جَدَّ عاصم بن عمر بن الخطاب.
فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة بين عسفان ومكة، ذُكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فنهدوا إليهم بقريب من مائة رجل رامٍ -و في رواية: مائتي رجل- فاقتفوا آثارهم، حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه، فقالوا: هذا تمر يثرب.
فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى موضع –و في رواية: إلى فدفد؛ أي: مكان مرتفع- فأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا فأعطوا أيديكم و لكم العهد و الميثاق لا يقتل منكم أحد.
فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم! أما أنا فوالله فلا أنزل على ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك صلى الله عليه وسلم.
فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة.
و نزل إليهم ثلاثة نفر على العهد و الميثاق، منهم خبيب و زيد ابن الدثنة ورجل آخر. فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها.
قال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، و الله لا أصحبكم، لي بهؤلاء أسوة؛ يريد القتلى، فجرَّروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم فقتلوه و انطلقوا بخبيب و زيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر؛ فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد منافٍ خبيبًا، و كان خبيب هو قتل الحارث بن عمرو يوم بدر. و لبث خبيب عندهم أسيرا حتى أجمعوا على قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحدّ بها فأعارته، فدَرَجَ بُنَيٌّ لها وهي غافلة حتى أتاه (قالت: فوجدته) مجلسه على فخذه و الموسى بيده قالت: ففزعت فزعة عرفها خبيب. فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك.
قالت: و الله ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب، فَوَاللهِ لقد وجدته يوما يأكل قِطفا من عنب في يده وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر , وكانت تقول إنه لرزق رزقه الله خبيبا.
فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحِلِّ قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين فتركوه فركع ركعتين. فقال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزعٌ لَزدت، اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا. قال:
فلست أبالي حين أُقتل مسلما على أي جنب كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله و إن يشأ يبارك على أوصال شِلْوٍ ممزَّع
ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو سَنَّ لكل مسلم قُتِل صبرًا الصلاة. وأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصحابة يوم أُصيبوا خبَرَهم.
¥