إن الخزانة الملكية التي تعتبر أول مؤسسة تفصح عنها كتب التاريخ والحضارة قد عملت على نسخ المخطوطات واستنساخها وترجمتها إلى لغة الضاد فتجمع لديها ذلك الرصيد الذي جعل منها، كما قلنا سابقا، أهم خزانة في الغرب الإسلامي بأكمله. فبصدد حديثه عن الحركة الثقافية على عهد الأدارسة يخبرنا أبو عبيد البكري في المسالك والممالك أن عددا كبيرا من العلماء والأدباء، أندلسيين ومغاربة، قصدوا بلاط الخليفة الإدريسي يحيى الرابع وأن كثيرا من الوراقين كانوا يعملون بخزانة القصر ينسخون الكتب. " ... إنه كان ينسخ له عدد من الوراقين" (8).
وقد بلغت هذه الخزانة مكانة مرموقة على عهد المرابطين والموحدين وعرفت نموا وازدهارا على عهد المرينيين والسعديين والعلويين. يحدثنا المراكشي في "المعجب" عن الخليفة الموحدي يوسف بن عبد المؤمن الذي كان عالما محبا للفلسفة أنه أمر بجمع كتبها، فاجتمع له منها قريب مما اجتمع للحكم المستنصر بالله الأموي (9). "ولم يزل يجمع الكتب من أقطار الأندلس والمغرب ويبحث عن العلماء، وخاصة أهل علم النظر، إلى أن اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك من قبله ممن ملك المغرب" (10). ولم يكن يكتفي هذا الخليفة بما يقتنيه من كتب، وبما يهدى له منها من طرف السفراء والعلماء والوجهاء، بل كان يلجأ إلى القوة لاحتكار أي خزانة خاصة جاء إلى سمعه أنها تضم مجموعة من كتب الفلسفة التي كان يعشقها. وقصة السيطرة على خزانة العالم "المراني التي حدثنا عنها المراكشي في كتابه "المعجب" أكبر دليل على هذه الظاهرة (11).
وقد بلغت هذه الخزانة أوجها ابتداء من القرن الثامن الهجري حيث كان معظم ملوك المغرب علماء محبين للكتب، لا يدخرون وسعا في اقتنائها واستنساخها وترجمتها، للاستفادة منها وإفادة الباحثين من العلماء والمؤلفين الذين كانت تعج بهم بلاطاتهم على مر العصور، ولا تزال المكتبة الملكية المغربية تحتفظ بالكثير من المخطوطات عليها حواشي الملوك وتعليقاتهم وتملكاتهم أو إشارات إلى أوامرهم بتأليفها برسم خزاناتهم الخاصة. وقد جعلوا على رأس هذه المكتبات قضاة و وزراء وحجابا، إيمانا منهم بدور هذه المؤسسات في تطوير المجتمع وترقيته. وإذا كانت الخزانة الملكية خزانة خاصة، فإن الوضع الذي تتميز به، من حيث محتوياتها وغناها واقتناؤها لنفائس المخطوطات ونوادرها ودورها العلمي الكبير الذي أناطت به نفسها منذ ظهور الملكية في المغرب، جعلها تتبوأ مكانة تميزها عن المكتبات الخاصة التي تميزت بها البيوتات المغربية منذ القديم.
إن كتب التاريخ والحضارة المغربية تعج بالأخبار عن هذه الخزانات التي تزين بيوت الأمراء والوزراء والوجهاء والعلماء والتجار والأغنياء الذين لم يكن جهل بعضهم ليثنيهم عن البحث عن الكتب الجميلة الأنيقة والمزخرفة، وإذا غفل المؤرخون عن ذكر بعض هذه الخزائن فإننا نعرفها اليوم ونقيمها من خلال التملكات التي لا تزال ماثلة على ظهر الكثير من المخطوطات المحفوظة في مختلف الخزانات.
وللتدليل على ذلك يحدثنا الإفراني في "نزهة الحادي" أن الوزير السعدي عبد العزيز الوزكيطي وحاجب السلطان أحمد المنصور الذهبي كانت له خزانة خاصة تضم خمسين ألف مخطوط، على الرغم من مستواه العلمي المتوسط، وتدلنا خاتمة كتاب "الدر المنظم في مولد النبي المعظم" أن هذا الكتاب ألف برسم خزانة أمير سبتة أبي القاسم بن أبي العباس العزفي. ومن مميزات هذه الخزانات أنها كانت مفتوحة في وجه الباحثين من العلماء للقراءة والنسخ وأنها كانت تسمح بإعارة الكتب.
أما المكتبات العامة فإنها بدأت في المغرب على غرار البلاد المشرقية داخل المساجد، وتتلخص هذه المكتبات في أربعة أنواع: مكتبات المساجد، مكتبات المساجد الجامعة، مكتبات المدارس العتيقة، ومكتبات الزوايا.
مكتبات المساجد ظهرت مع ظهور المسجد في المغرب، وما سميته بمكتبات المساجد الجامعة فإنها تلكم المكتبات التي أسست بإزاء بعض الجوامع الكبرى التي كانت تقوم بدور الجامعة في العصر القديم، وأخص منها بالذكر خزانة جامع القرويين الذي يعتبر أقدم جامعة عربية إسلامية، وخزانة جامع ابن يوسف بمراكش الذي أسسه علي بن يوسف بن تاشفين المرابطي في مطلع القرن السادس الهجري، وقد كان للخزانتين، مع ما يماثلهما من مؤسسات، دور كبير في تطوير الثقافة وفي الحفاظ على المخطوطات، ولا تزالان إلى اليوم تؤديان هذا الدور.
وبإزاء هذه المكتبات توجد مدارس عتيقة، خصوصا في المدن القديمة كفاس ومراكش، لإيواء الطلاب الآفاقيين. إن هذه المؤسسات التي كان يقطن فيها الطلبة كانت مزودة بمكتبات للمطالعة والقراءة، ولم تكن مقتصرة على القاطنين وحدهم بل كانت تتجاوزهم إلى غير القاطنين من طلبة المساجد والمعاهد الأخرى (12).
وبالإضافة إلى ذلك بدأت تظهر في المغرب، خصوصا ابتداء من القرن العاشر الهجري، زوايا قامت بأدوار بارزة سواء في تطوير الثقافة أو في سبيل الحفاظ على التراث المخطوط. وعلى الرغم من كون السبب الرئيسي في إنشاء هذه المؤسسات سياسيا وذلك لمواجهة الغزو المسيحي للمغرب منذ القرن التاسع، فإنها قد أعطت أكبر العقول وأعظم المؤلفات وأهم الخزانات التي عرفها تاريخ المغرب، بدءا من عصر السعديين، ولا تزال خزانة زاوية تامجروت الناصرية بالجنوب المغربي تشهد على ذلك. أما خزانة الزاوية الدلائية التي كاد يتم لزعمائها الاستيلاء على المغرب بأكمله في القرن الحادي عشر الهجري فإنها كانت حسب المؤرخين في مستوى خزانة الحكم المستنصر الأموي التي كانت تضم أربعمائة ألف كتاب. يحدثنا الشيخ عبد الحي الكتاني أن الكثير من كتب هذه الخزانة قد آل إلى خزانة السلطان العلوي المولى الرشيد الذي حبس بعضا منها على خزانة المسجد الكبير بمكناس (13).
¥