كان سكان الصحراء بحكم طبيعتهم البدوية يقطعون المسافات الطويلة دون مشقة ومع استخدام الجمال العربية ذات السنام الواحد "سفينة الصحراء" حدثت ثورة في وسائل النقل عبر الصحراء. حيث لم تعد الرمال حواجز عازلة، ونشطت حركة القوافل منذ القرن الثاني الهجري مستفيدة من الآبار التي حفرها العرب الفاتحون مثل عبد الرحمن بن حبيب أو حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع، وتعددت مسالك التجارة عبر الصحراء فكانت القوافل تنقل الذهب والذرة البيضاء من الجنوب إلى الشمال وتنقل الملح والمصنوعات النحاسية والحلي وأدوات الزينة والعطور والقمح والزيت والمنسوجات من الشمال إلى الجنوب وارتبطت الصحراء تجاريا بالأندلس بدليل وجود الصمغ العربي الذي جلب إليها من بلاد شنقيط.
وقد كانت القوافل تنتقل بين مراكز الإشعاع العلمي والثقافي البارزة وكان يسير في هذه القوافل رجال علم ودين وكانت المدن القديمة تستعين بوظائفها التجارية على وظائفها الثقافية وانطبعت الأغراض الدينية والثقافية بالرحلات والأسفار نحو الشمال قابلتها حركة الهجرة البشرية نحو الجنوب فكانت رافدا للحياة الثقافية وقد وطدت تجارة الصحراء للنهضة الثقافية في بلاد شنقيط حتى إذا هيمنت تجارة المحيطات استطاعت البلاد أن تحافظ على دورها الثقافي متحررة من أعباء التجارة في مبادلاتها مع الشمال.
لقد اقترنت الرحلات بالعلم وأصبحت مصدر شهرة أبرز حواضر الخلافة وكان الحجاج يعودون ومعهم الكتب بعد أن شهدوا منافع لهم وساهم ذلك في نقل المعارف عن طريق المراسلات والتواصل الحضاري بين المسافرين من مختلف الشعوب والأمم.
فقد ساهم العلماء الشناقطة في نشر العلم والمعرفة في أعماق أفريقيا ونسجوا وشائج معرفية وعلمية وقرابات نسب مع سكانها فولدت ذرية بعضها من بعض فكانوا بمثابة الجنود المجهولين الذين واصلوا حركة الفتح ونشر الإسلام هناك.
يقول أمادوديا: "لم يدخل الإسلام غرب أفريقيا عن طريق الغزو الإمبريالي ولا عن طريق شواطئ النيل وإنما دخل عن طريق الصحراء ... ".
ويؤكد أغلب المؤرخين أنه بجهود هؤلاء الشناقطة تغلغلت الثقافة العربية في أفريقيا وكانت اللغة العربية مستعملة في التجارة التي كانت بأيدي العرب.
ولقد انطبعت ثقافات أفريقيا الغربية بطابع لغة وعلوم العرب منذ القرن الرابع الهجري، إلا أن المد الثقافي العربي الإسلامي لم يتسع إلا في القرون الأخيرة حيث كان للعرب في عاصمة غانا القديمة 12 مسجدا ألحقت بكل مسجد مدرسة لتعليم اللغة العربية والفقه الإسلامي وكان الشناقطة يتخذون التجارة وسيلة للكسب الحلال وأداة لتيسير سبل الدعوة فكان حضورهم وتأثيرهم يقوى ويتنامى والإسلام يزداد بهم انتشارا جيلا بعد جيل ومنطقة وراء أخرى وكانوا بانتشار الإسلام يزدادون قوة ونفوذا وتأثير وكثافة حضور.
كانت شنقيط علما على بلاد كبيرة في مرحلة ازدهار ثقافي وارتبطت النسبة إليها بالنسبة إلى العلم والمعرفة إلا أننا نرى اليوم وشائج اللغات الأفريقية تتقطع عن الدين الإسلامي تحت ذرائع مختلفة، وترعى اليونسكو وكالة التعاون الثقافي والتقني للدول الناطقة بالفرنسية عدة تجارب لكتابة بعض اللغات الأفريقية بالحرف اللاتيني.
وعندما جاء الاستعمار الفرنسي بداية القرن العشرين صمم خريطة البلاد بهدف عزلها عن محيطها العربي والإسلامي فقطع أطرافها وحول مسالك التجارة من الشمال إلى الجنوب وحشرت بلاد شنقيط في منطقة أفريقيا الغربية الفرنسية.
[شنقيط والتراث الضائع]
لقد قاوم الشناقطة مخططات المسخ والاستيلاب الثقافي إلا أن الاستعمار الفرنسي استطاع إضعاف المناعة الحضارية للمجتمع فقام بفرض حصار ثقافي عززه بزرع المدرسة الاستعمارية ووضعها في مواجهة حادة مع المحضرة التي كانت سبب ازدهار حركة التأليف في القرن 13 هـ.
وكما يصعب التأليف تصعب أيضا صيانة الكتب وحفظها والناس اليوم في بلاد شنقيط يأسفون على تراث أجدادهم الضائع وهناك عدة عوامل أتلفت مخطوطات أسلافهم كالترحال والأمطار والحروب ...
وحين دخل الاستعمار جمع الكثير من هذه المخطوطات ولا يزال بعضها موجودا في المكتبات الفرنسية ومنذ سنوات بدأت عدة هيئات تعنى ما بقي من التراث الشنقيطي. فتم تأسيس معهد مكلف بحفظ وحصر المخطوطات وفي أول عمل قام المعهد بحصر
3200 كتاب مخطوطا
2239 ميكرو فيلم
500 ملف للشعر
300 ملف أخرى.
وكانت اليونسكو بالتعاون مع المعهد الوطني للبحث العلمي قد عقدت ندوة حول المخطوطات عام 1977 في نواكشوط تأكد المشاركون فيها ممن الثروة الثقافية المطمورة في هذه البلاد وقدمت قطر وليبيا بعض المساعدات في عمل المعهد واعتنت ألمانيا ميدانيا بتصوير هذه المخطوطات فأفادت الباحثين في بعض مكتباتها وفي المعهد كذلك، إلا أن أهم ما تم إنجازه في ميدان الفهرسة حتى عام 1987 كان دليل المؤلفين الشناقطة الذي وضعه المختار بن حامد والخبير الدولي (هيموفسكي) وهناك جهود جبارة قام بها الأستاذ الخليل النحوي منها كتابه "مئات المؤلفين وآلاف المؤلفات في مجاهل التاريخ".
ورغم كل الجهود الرسمية والفردية إلا أن حصيلة الفهرسة والحصر والاقتناء مازالت ضيقة وقاصرة.
وفي الأخير فإن الكثيرين يعتقدون أنه إذا كانت موريتانيا الحالية قد قامت على بعض أركان هذه البلاد فإنها قامت على الركن المتصدع من أركان بلاد شنقيط.
No.29 - آذار 2003
مجلة عرين ( http://www.arabcin.net/areen/29/city.htm)
¥