قراره، وما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعي وشتى، ولا كلامها اليوم لفرق أو
رفق، وقد جدع الله بمحمد صلى الله عليه وسلم أنف كل ذي كبر، وقصم ظهر كل جبار،
وقطع لسان كل مكذوب فماذا بعد الحق إلا الضلال ما هذه الخنزوانة "التي" في فراش
رأسك؟ ما هذا الشجا المعترض في مدارج أنفاسك، ما هذه القذاة التي اغشت ناظرك؟
وما هذه الوحرة التي أكلت شراسيفك؟ وما هذا الذي لبست بسببه جلد النمر،
واشتملت بالشحناء والنكر، ولسنا في كسروية كسرى، ولا في قيصرية قيصر، تأمل لإخوان
فارس وأبناء الأصفر، قد جعلهم الله جزراً لسيوفنا، ودريئة لرماحنا ومرعى لطعاتنا،
وتبعاً لسطاننا، بل نحن نور نبوة، وضياء رسالة، وثمرة حكمة، وأثرة رحمه، وعنوان نعمه،
وظل عصمه، بين أمة مهدية بالحق والصدق، مأمونة على الرتق والفتق، لها من الله إباء أبي،
وساعد قوي، ويد ناصره، وعين ناظره، أتظن ظناً يا علي أن أبا بكر وثب على هذا الأمر
مفتاناً على الأمة، خادعاً لها، أو متسطاً "عليها" أتراه حل عقودها "وأحال عقولها" أتراه
جعل نهارها ليلاً، ووزنها كيلاً، ويقظتها رقاداً، وصلاحها فساداً لا والله، سلا عنها
فولهت له، وتطامن لها فلصقت به، ومال عنها فمالت إليه، واشمئز دونها فاشتملت عليه،
حبوةً حباه الله بها، وعاقبةً بلغه الله إليها، ونعمة سربله جمالها، ويداً أوجب عليه شكرها
وأمةً نظر الله به لها، والله تعالى أعلم بخلقه، وأرأف بعباده يختار ما كان لهم الخيرة، وإنك
بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوة ومعدن الرسالة، ولا يجحد حقك فيما أتاك الله،
ولكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم وقرب أمس من قرابتك، وسن أعلى من سنك،
وشيبة أروع من شيبتك، وسيادة لها أصل في الجاهلية وفرع في الإسلام، ومواقف ليس لك
فيها جمل ولا ناقة، ولا تذكر فيها في مقدمة ولا ساقه، ولا تضرب فيها بذراع، ولا إصبع،
ولا تخرج منها ببازل ولا هبع، ولم يزل أبو بكر حبة قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وعلاقة نفسه وعيبة سره، ومفزع رأيه، وراحة كفه، ومرمق طرفه، وذلك كله بمحضر
الصادر والوارد من المهاجرين والأنصار شهرة مغنية عن الدليل عليه ولعمري، إنك أقرب
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة، ولكنه أقرب منك قربة، والقرابة لحم ودم،
والقربة نفس وروح، وهذا فرق عرفه المؤمنون ولذلك صاروا إليه أجمعون ومهما شككت
في ذلك فلا تشك أن يد الله مع الجماعة ورضوانه لأهل الطاعة، فادخل فيما هو خير لك
اليوم وأنفع غداً، وألفظ من فيك ما يعلق بلهاتك وانفث سخيمة صدرك عن تقاتك، فإن
يك في الأمل طول، وفي الأجل فسحة، فستأكله مريئاً أو غير مري، وستشربه هنيئاً أو غير
هنئ، حين لا راد لقولك إلا من كان منك، ولا تابع لك إلا من كان طامعاً فيك، يمص
إهابك، ويعرك أديمك، ويزري على هديك، هنالك تقرع السن من ندم، وتجرع الماء ممزوجاً
بدم، وحينئذ تأسى على ما مضى من عمرك ودارج قوتك فتود، أن لو سقيت بالكأس التي
أبيتها، ورددت إلى حالتك التي استغويتها، ولله تعالى فينا وفيك أمرٌ هو بالغه، وغيبٌ هو
شاهده، وعاقبةٌ هو المرجو لسرائها وضرائها، وهو الولي الحميد، الغفور الودود.
قال أبو عبيدة: فمشيت متزملاً أنوء كأنما أخطو على رأسي فرقاً من الفرقة، وشفقاً على
الأمة، حتى وصلت إلى علي رضي الله عنه في خلاء، فأثبته بثي كله، وبرئت إليه منه،
ورفقت به؛ فلما سمعها ووعاها، وسرت في مفاصله حمياها؛ قال: حلت معلوطة، وولت
مخروطة، وأنشأ يقول:
إحدى لياليك فهيسي هيسي لا تنعمي الليلة بالتعريس
نعم يا أبا عبيدة، أكل هذا في أنفس القوم يحسون به، ويضطبعون عليه؟ قال أبو عبيدة:
فقلت: لا جواب لك عندي، إنما أنا قاض حق الدين، وراتقٌ فتق المسلمين، وساد ثلمة
الأمة، يعلم الله ذلك من جلجلان قلبي، وقرارة نفسي؛ فقال علي رضي الله عنه: والله ما
كان قعودي في كسر هذا البيت قصداً للخلاف، ولا إنكار للمعروف، ولا زرايةً على
مسلم، بل لما وقذني به رسول الله صلى الله عليه وسلم من فراقه، وأودعني من الحزن
لفقده، وذلك أنني لم أشهد بعده مشهداً إلا جدد علي حزناً، وذكرني شجنا، وإن الشوق
إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره، وقد عكفت على عهد الله أنظر فيه، وأجمع ما
تفرق منه رجاء ثواب معد لمن أخلص لله عمله، وسلم لعلمه ومشيئته، وأمره ونهيه، على
¥