فَفَعَلتُ مَا أَمَرَنِي، وَأَعْلَمتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ، فَحَضَرَ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَصَعَدَ غُرفَةً، وَاجتَهَدَ فِي وِرْدِهِ، وَحَضَرَ الحَارِثُ وَأَصْحَابُهُ، فَأَكَلُوا، ثُمَّ قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ، وَلَمْ يُصَلُّوا بَعْدَهَا، وَقَعَدُوا بَيْنَ يَدَيِ الحَارِثِ وَهُم سُكُوتٌ إِلَى قَرِيْبٍ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَابتَدَأَ وَاحِدٌ مِنْهُم، وَسَأَلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَأَخَذَ الحَارِثُ فِي الكَلاَمِ، وَهُم يَسْمَعُوْنَ، وَكَأَنَّ عَلَى رُؤُوْسِهُمُ الطَّيْرَ، فَمِنهُم مَنْ يَبْكِي، وَمِنْهُم مَنْ يَزعَقُ، فَصَعدْتُ لأَتَعَرَّفَ حَالَ أَبِي عَبْدِ اللهِ، وَهُوَ مُتَغَيَّرُ الحَالِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ رَأَيْتَ؟
قَالَ: مَا أَعْلَمُ أَنِّي رَأَيْتُ مِثْلَ هَؤُلاَءِ القَوْمِ، وَلاَ سَمِعْتُ فِي عِلْمِ الحَقَائِقِ مِثْلَ كَلاَمِ هَذَا، وَعَلَى مَا وَصَفتُ، فَلاَ أَرَى لَكَ صُحْبَتَهُم.
ثُمَّ قَامَ، وَخَرَجَ.
قَالَ السُّلَمِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا القَاسِم النَّصْرَابَاذِيَّ يَقُوْلُ:
بَلَغَنِي أَنَّ الحَارِثَ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنَ الكَلاَمِ، فَهَجَرَهُ أَحْمَدُ، فَاخْتَفَى فِي دَارٍ مَاتَ فِيْهَا، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ إِلاَّ أَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ. (11/ 328)
فَصْلٌ
قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: كَانَ الإِمَامُ لاَ يَرَى وَضْعَ الكُتُبِ، وَيَنْهَى عَنْ كِتْبَةِ كَلاَمِهِ وَمَسَائِلِهِ، وَلَوْ رَأَى ذَلِكَ، لَكَانَتْ لَهُ تَصَانِيْفُ كَثِيْرَةٌ، وَصَنَّفَ (المُسْنَدَ)؛ وَهُوَ ثَلاَثُوْنَ أَلْفَ حَدِيْثٍ، وَكَانَ يَقُوْلُ لاِبْنِهِ عَبْدِ اللهِ: احتَفِظْ بِهَذَا (المُسْنَدِ)، فَإِنَّه سَيَكُوْنُ لِلنَّاسِ إِمَاماً، وَ (التَّفْسِيْرَ) وَهُوَ مائَةٌ وَعِشْرُوْنَ أَلْفاً، وَ (النَّاسِخَ وَالمَنْسُوْخَ)، وَ (التَّارِيْخَ)، وَ (حَدِيْثَ شُعْبَةَ)، وَ (المُقَدَّمَ وَالمُؤَخَّرَ فِي القُرْآنِ)، وَ (جَوَابَاتِ القُرْآنِ)، وَ (المَنَاسِكَ) الكَبِيْرَ وَالصَّغِيْرَ، وَأَشْيَاءَ أُخَرَ.
قُلْتُ: وَكِتَابَ (الإِيْمَانِ)، وَكِتَابَ (الأَشْرِبَةِ)، وَرَأَيْتُ لَهُ وَرَقَةً مِنْ كِتَابِ (الفَرَائِضِ).
فَتَفْسِيْرُهُ المَذْكُوْرُ شَيْءٌ لاَ وُجُوْدَ لَهُ، وَلَوْ وُجِدَ، لاَجْتَهَدَ الفُضَلاَءُ فِي تَحْصِيْلِهِ، وَلاَشْتُهِرَ، ثُمَّ لَوْ أَلَّفَ تَفْسِيْراً، لَمَا كَانَ يَكُوْنُ أَزْيَدَ مِنْ عَشْرَةِ آلاَفِ أَثَرٍ، وَلاَقْتَضَى أَنْ يَكُوْنَ فِي خَمْسِ مُجَلَّدَاتٍ.
فَهَذَا (تَفْسِيْرُ ابْنِ جَرِيْرٍ) الَّذِي جَمَعَ فِيْهِ فَأَوعَى، لاَ يَبلُغُ عِشْرِيْنَ أَلْفاً.
وَمَا ذَكَرَ (تَفْسِيْرَ أَحْمَدَ) أَحَدٌ سِوَى أَبِي الحُسَيْنِ بنِ المُنَادِي، فَقَالَ فِي (تَارِيْخِهِ):
لَمْ يكُنْ أَحَدٌ أَرْوَى فِي الدُّنْيَا عَنِ أَبِيْهِ مِنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَحْمَدَ؛ لأَنَّه سَمِعَ مِنْهُ (المُسْنَدَ) وَهُوَ ثَلاَثُوْنَ أَلْفاً، وَ (التَّفْسِيْرَ) وَهُوَ مائَةٌ وَعِشْرُوْنَ أَلْفاً، سَمِعَ ثُلُثَيْهِ، وَالبَاقِي وِجَادَةٌ. (11/ 329)
ابْنُ السَّمَّاكِ: حَدَّثَنَا حَنْبَلٌ، قَالَ:
جَمَعَنَا أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، أَنَا وَصَالِحٌ وَعَبْدُ اللهِ، وَقَرَأَ عَلَيْنَا (المُسْنَدَ)، مَا سَمِعَهُ غَيْرُنَا.
وَقَالَ: هَذَا الكِتَابُ جَمَعتُهُ وَانتَقَيتُهُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِ مائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسِيْنَ أَلْفاً، فَمَا اختَلَفَ المُسْلِمُوْنَ فِيْهِ مِنْ حَدِيْثِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَارْجِعُوا إِلَيْهِ، فَإِنْ وَجَدتُمُوهُ فِيْهِ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ.
قُلْتُ: فِي (الصَّحِيْحَيْنِ) أَحَادِيْثُ قَلِيْلَةٌ لَيْسَتْ فِي (المُسْنَدِ).
لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: لاَ تَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ، فَإِنَّ المُسْلِمِيْنَ مَا اخْتَلَفُوا فِيْهَا، ثُمَّ مَا يَلزَمُ مِنْ هَذَا القَوْلِ: أَنَّ مَا وُجِدَ فِيْهِ أَنْ يَكُوْنَ حُجَّةً، فَفِيْهِ جُمْلَةٌ مِنَ الأَحَادِيْثِ الضَّعِيفَةِ مِمَّا يَسُوغُ نَقلُهَا، وَلاَ يَجِبُ الاحْتِجَاجُ بِهَا، وَفِيْهِ أَحَادِيْثُ مَعْدُوْدَةٌ شِبْهُ مَوْضُوْعَةٍ، وَلَكِنَّهَا قَطْرَةٌ فِي بَحرٍ.
¥