أشدّ؛ لأن حقَّه لا يقتصر عليه (أولاً)؛ ولأنَّ حاجة الناس إلى القيام به أشد (ثانيًا).
ثم ثاني حقٍّ ينبغي أن يؤدَّى للعالم: أن يُقَرَّ له بالتقدُّمِ والتميُّزِ على غيره من الناس في العلم الذي تقدَّمَ وتميَّزَ به، بل إن هذا الإقرار هو باب الوفاء للعالم بحقِّه، وبغيره لن يُعطى العالمُ شيئًا من حقوقه؛ لأنّ هذا الإقرار يستلزمُ عند كل العقلاء قدرًا من التقديم والتقدير بحسب ذلك التقدُّمِ والتميُّزِ؛ ولأنّ عدم الإقرار به لن يدع للعالم عند الجاحد لتقدّمه وتميُّزه أيَّ داعٍ للتقديم والتقدير.
ولذلك فإنه من الضروري في هذا الباب أن يكون عند الناس إقرارٌ بتقدُّمِ العلماء عليهم وتميُّزِهم عنهم، وإلا فعلينا أن نطوي صفحة الحديث عن حقوق العلماء على أمتهم.
وهذا ينبهنا إلى أنّ السعي إلى تحقيق هذا الإقرار من الأُمّة لعلمائها، والبحث في أسباب تخلُّفِه عند كثيرين منها، والتأمُّلَ في دواعي قصوره عند أكثرها أَوْلى ما يجب التّهمُّمُ به، وهو الخطوة الأولى لأن تعرف الأُمّة حقوق علمائها، لتعرف بعد ذلك سبيلَ بقائها وعزتها ورفعة شأنها.
ولا شك أنه قبل ذكر علاج ظاهرةٍ ما، أنه لابُدّ من معرفة أسبابها، فما هي أسباب هذه الظاهرة؟ وهي عدم الاعتراف لعلماء الشريعة بتقدُّمهم وتَميُّزهم في علم الشريعة.
إن هذا الموضوع لموضوعٌ حقيقٌ بطول النظر والتأمّل، ويستحقّ أخذ آراء العلماء والباحثين فيه؛ لأهمّيته، ولتعدُّد أسبابه وكثرتها في ظنِّي. غير أني أُنبِّه هنا إلى بعض الأسباب، والتي منها: ما هو شخصي نفسي لا يعمُّ كلَّ من اتصف بتلك الظاهرة؛ ومنها ما هو سببٌ عامٌّ يشمل جميع أو غالب المتّصفين بها، فمن تلك الأسباب:
أولاً: الغرور والتعالمُ: وهو داءٌ خطير، يمنع من التعلُّم؛ لأنه يُوهِمُ صاحبَه بأنه ليس في حاجةٍ إلى عِلْم غيره من العلماء، ويكفي هذا الداء سوءًا أنه لا يرضى أحدٌ أن يوصفَ به، ولا الواقع فيه. ولذلك فإن من خطورته أن المصاب به لا يشعر أنه مصابٌ به، وإلا لو شعر بمُصابه به لسعى في الاستشفاء منه. وهذا يعني أن علاج هذا الداء يبدأ بإشعار صاحبه بنقصه وقصوره وقلّة علمه، ولذلك طرائقه التي لا تخفى على الحكيم، والتي تختلف من شخص إلى آخر.
ويكثر هذا الداء في عصرنا بين طبقاتٍ مختلفةٍ من الناس، وأكثرهم ضَراوةً فيه صنفان منهم:
- مُثَقِّفون وعلماء في غير العلوم الشرعيّة: ظنّوا أن علمهم الذي تعلّموه، وذكاءهم الذي قادهم إلى التفوق في علومهم (ربّما) = كافٍ لأن يزاحموا علماء الشريعة علمهم الذي تخصّصوا فيه، ناسين أو متناسين أن الواحد منهم لا يحق له أن يزاحم علماء كل العلوم التي لم يتخصّصوا فيها، فلِمَ جعلوا من علم الشريعة وحده حمىً مستباحاً يَلجُه من شاء متى شاء؟!.
- طلبة العلم الشرعي الذين لم يتأدّبوا بأدب العلم الذي تعلّموا طرفاً منه: وهؤلاء غالباً إنما داؤهم الأكبر هو طلب العلم للدنيا: للمال، أو الجاه، فدواؤهم هو الإخلاص! فإذا أخلصوا في الطلب، ظهرت آثار العلم عليهم، والتي من أبرزها التواضع وهضم النفس. وما أبعد أهل الإخلاص عن الغرور!.
ثانياً: الجهل بحقيقة العلوم الشرعيّة، وأنها علومٌ عميقةٌ في غاية العمق، بل هي أعمق العلوم على الإطلاق، ولذلك اختصَّ اللهُ –تعالى- بها أكمل الخلق وأذكى الناس، وأعقل البشر، وهم أنبياؤه ورُسُلُه، وكان ممّن اختصّه الله –تعالى- بعلوم شرعه خاتمُ رُسله، وإمامُ أنبيائه، وسيدُ ولد آدم: محمدٌ –صلى الله عليه وسلم-، الذي كان أعلمَ الناس بالله تعالى وبأمره – عز وجل-، ومع عظيم علم نبيّنا صلى الله عليه وسلم بشرع ربّه عز وجل، فقد أُمر بالضراعةِ إلى ربّه – سبحانه- أن يزيده منه علماً، فقال تعالى: "وقل ربِّ زدني علماً"! فأي علم أعمق من علم خصَّ الله –تعالى- به مصطفاه من خلقه، فهو صلى الله عليه وسلم أعلم الناس به، ثم مع عظيم علمه به يأمره عز وجل بطلب الزيادة منه!. ومع عُمق علوم الشريعة هذا العمق العظيم نجد الناس متهافتين في الخوض فيها، جهلًا منهم بعمقها. ولذلك فإنك ترى الناس لا يقبلون من غير الطبيب أن يمارس مهنة الطب، ولا يقبلون من غير المهندس أن يمارس مهنة الهندسة؛ لأنّ هذين العلمين عندهم علمان تخصُّصيّان، لا يتقنهما إلا من تخصَّص فيهما، وهكذا بقية العلوم الكونيّة، فإذا جاؤوا للعلوم
¥