الغربية المادية وجشعها، فإن رائحة المادية تفوح من هذه التعاريف، فروسيا أقامت
نهضتها الصناعية بعد أن قتلت وشردت الملايين، وقُل مثل ذلك في الصين، فهل
المهم هو استغلال الوقت والتراب ولو على حساب الإنسانية؟! وأما العنصر
الأخلاقي أو الروحي ( Ethes) أو ما أسماه (الفكرة الدينية) التي يكون أصلها من
السماء، فقد استوحاها من (كسرلنج) الذي يقول: (وكان أعظم ارتكاز حضارة
أوربا على روحها الدينية).
ويعرف الروح الدينية: (ولست أعني بالروح ذلك الشيء الدال على منطق
أو عقل أو مبادئ مجردة، وإنما هو بصفة عامة: ذلك الشعور القوي في الإنسان،
والذي تصدر عنه مخترعاته وتصوراته وتبليغه لرسالته، وقدرته الخفية على
إدراك الأشياء) [10].
فهذا المفكر يعتبر أن (الروح المسيحية) و (مبدأها الخلقي) هما القاعدتان
اللتان شيدت عليهما أوربا سيادتها التاريخية، وجاء مالك وأخذ عنه هذه الفكرة
ووضعها قاعدة عامة لكل الحضارات، وأخذ عنه أيضاً وعن (شبنجلر) تقسيمه
لدورة الحضارة إلى المراحل الثلاث: روحية، وعقلية، وغرائزية، وإن كان ابن
خلدون قبلهم قد قال بمثل هذا ولكنه تكلم على الدول ولم يتكلم عن الحضارات،
ومقولة: (أنه لا توجد حضارة إلا وللدين أثر فيها) صحيحة من حيث الجملة، وقد
قال بها ابن تيمية أيضاً [11]، ولكن يبقى الإشكال هو: وضع الإسلام موضع
المساواة مع أي فكرة دينية واعتباره شعلة أخلاقية تصلح لتركيب المعادلة، هنا
موضع الخطورة والنقص، فالمفكر (كسرلنج) عندما يتكلم عن النصرانية يتكلم عنها
كجزء من الأجزاء المكونة للحضارة الغربية، ولكن الإسلام دين شامل وليس مبدأ
أخلاقياً فحسب، وقاعدته الأساسية هي التوحيد الذي ينبني عليه الأخلاق والآداب
والتشريعات ... وما يعتبر فناً رائعاً عند من يكتب عن الحضارات يعتبر حراماً في
الإسلام.
والواقع أن ابن نبي غير واضح في هذه المسألة، فنراه واعياً لمسألة الشمولية
عندما يعتبر العصر الراشدي هو النموذج دائماً وتعاطفه وتأييده للحركات الإسلامية،
مثل: حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحركة جمعية العلماء في الجزائر،
وربما يكون ضعفه في العلوم الشرعية هو الذي جعله يقع في أخطاء توحي بعدم
الشمولية، وخاصة في موضوع تطبيق الشريعة الإسلامية.
ومع ذلك فإن طرحه لمشكلة الحضارة بمعناها الواسع هو من الأهمية بمكان،
ولذلك سنمضي معه في وقفته الطويلة عند هذا الموضوع.
إن ارتفاع المسلم إلى مستوى (حضارة) (فيتعلم كيف يعيش في جماعة،
ويدرك في الوقت ذاته الأهمية الرئيسية لشبكة العلاقات الاجتماعية) [12]، ويتعلم
كيف يكون لبنة في (البنيان المرصوص)، هذا الارتفاع لابد منه وهو المطلوب
الآن، بينما نرى في الواقع أن المسلم الذي لا ينقصه الإخلاص لا يستطيع مجابهة
مشاكله وكيف يحلها، لأنه تعلم وأخذ شهادات مدرسية ولكنه لم يتثقف، ولم يتشرب
من بيئته في المنزل والمدرسة كيف يكون فعّالاً، وكيف يقوم بأعمال مشتركة مع
الآخرين، والإسلام عندما رفع العرب إلى مستوى (حضارة) عدّل من طباعهم حتى
تكون وسطاً، ووضعهم بين حدّي الوعد والوعيد، وعدل من غرائز الإنسان ولم
يكبتها (حرّم الزنا وشجع الزواج)؟، وهكذا دخل العربي وغير العربي في حضارة
الإسلام، وأصبحت شخصية المسلم شخصية سوية ليس فيها عُقد نفسية أو اجتماعية،
وعندما عُزل خالد بن الوليد- رضي الله عنه- عن قيادة الجيوش في الشام لم
يُحدث عزله أي مشكلة، ولو حصلت هذه الحادثة بعد بضعة عقود من السنين
لزلزلت الأرض.
والمسلم الذي هو (خارج من حضارة) -كما يعبر مالك بن نبي- يتصرف
بأنانية مفرطة، قد تضخمت عنده (الأنا)؛ فلا يرى إلا نفسه ولا يهتم إلا بمصلحته
الخاصة، ولا يستطيع أن يقوم بعمل تعاوني مع غيره، وإذا ذهبت إلى منزل هذا
المسلم (الطيب) ستجد آثار تضييع المال ودون قصد منه في كثير من الأحيان،
فأولاده يحطمون كل شيء، وبقايا الطعام تتناثر فوق السجاد الفاخر، والأم الجاهلة
تنظر إليهم وكأن شيئاً لم يكن، ولأنه لم يرتب أموره الاقتصادية تذهب أمواله إلى
أصحاب المصانع في الغرب والشرق لتكون عوناً لهم على المسلمين، مع أنه يعلم
أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهانا عن (إضاعة المال). وعندما أراد بلد
¥