إن الأمراض الاجتماعية والنفسية التي يركز عليها مالك بن نبي ربما تظهر
لبادي الرأي أنها صغيرة وليست هي مشكلة المسلمين الرئيسية، والجواب على ذلك:
أننا حتى لو اعتبرناها صغيرة ولكنها مهمة جداً لأنها كحبات الرمل التي تستطيع
إيقاف آلة ضخمة.
الشلل الأخلاقي:
إن أخطر مرض أصاب المسلمين هو الانفصام بين النموذج القرآني والتطبيق
العملي، فقد انعدمت الدوافع الآلية التي حركت الرعيل الأول من الصحابة [18].
ويلخِّصها قول الفرزدق الشاعر للحسين بن علي -رضي الله عنه- واصفاً
أهل العراق: (قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية)، وبدأ ضمير المسلم يتهرب من
الحقائق المنزلة (وحركة الخوارج والمعتزلة مثال على ذلك) [19]، ولكن هذا
المرض ازداد فشواً في مجتمع (ما بعد الموحدين)، فأصبح المسلم نتيجة لغروره لا
يحاسب نفسه، ولا يعترف بأخطائه، وأصبحت المعادلة: (بما أن الإسلام دين
كامل وبما أنه مسلم، فالنتيجة أنه كامل، وبذلك اختلت أي حركة عنده لزيادة الجهد
والتقدم) [20].
ونتيجة لهذا الخلل ضعفت الروابط الاجتماعية: (فعالم الأشخاص لا يتألف
ضمن منهج تربوي، يهتم بالأخلاق) [21]، وهذا التآلف مهم جداً، قال تعالى:
] لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [؟
[الأنفال / 63]، ومبدأ المؤاخاة الذي قام بين المهاجرين والأنصار أصبح من
الخطابات السعيدة، والأخوَّة الإسلامية أصبحت كلاماً للزينة وشعور تحجر في
نطاق الأدبيات [22]، وهذا الضعف يقصد به المجتمع ككل ولا يقصد به كل فرد،
فلا يزال في الأمة (كأفراد) خير كثير، ولا يزال الناس في الريف أقرب للفطرة.
عدم الفعالية:
وكان من نتائج هذا الانفصام الأخلاقي: أن المسلم يحمل أفكاراً صحيحة
ولكنه لا يستطيع تطبيقها في دنيا الواقع، كفريسة تعرضت للشلل حتى يسهل
ابتلاعها، لأن البيئة التي تحيط به وتغذيه بثقافتها أصبح مثلها الأعلى هو الزهد
الأعجمي والصوفية أصحاب المرقعات، ولا يتمثلون بعمر بن الخطاب أو بعبد الله
بن المبارك أو الإمام مالك، (والمسلم في هذه الحالة إنما يغالط نفسه، فيهرب إلى
هذه التعلات الصوفية الكاذبة) [23]، وفي المقابل: نجد عند الغربيين أفكاراً قد لا
تثبت أمام النقد الموجه لها ولكنهم استخدموها إلى أقصى ما يستطيعون، مثل: فكرة
(التقدم)، والمسلم يحمل القرآن ولكنه لا يستفيد منه كثيراً في التخطيط لنهضة قادمة،
فعقلية ما بعد الموحدين تشله عن الإبداع، هناك خلل في طريقة تفكيره، فعندما
اكتشف ابن النفيس الدورة الدموية لم يستفد منها المجتمع الإسلامي لأنه لم يكن على
المستوى الثقافي الذي يحيط هذا الاختراع بالرعاية، والمشكلة: (أن مجتمع ما بعد
التحضر يسير إلى الخلف بعد أن انحرف عن طريق حضارته وانقطعت صلته
بها) [24].
أمثلة على هذا الخلل:
1 - ذهان السهولة (مرض السهولة): يميل المسلم في تقويمه للأشياء إما للغلو
فيها أو للحط من قيمتها، ويتمثل هذا في نوعين من الأمراض: فإما أن الأمور
سهلة جداً ولا تحتاج إلى تعب وكد فكر، والحل بسيط، وإما أن الأمور مستحيلة،
وأبرز مثال على مرض (السهولة): قضية فلسطين، فقد قيل: إن إخراج اليهود
سيتحقق بعد أشهر، ولو نفخنا عليهم نفخة واحدة لطاروا، ولكنهم في الحقيقة لم
يطيروا، (وهناك من يظن أنه بخطبة رنانة تحل مشاكل المسلمين، وبعضهم يكره
أن تدعوه إلى تفكير عميق في موضوع ما من الموضوعات لأنه يؤثر السهولة
ويكتفي بتفسير سطحي، وعندما تخطط السياسة طبقاً لمبدأ السهولة فإنها سوف
تجتذب إلى تيارها كثيراً من الناس ذوي النوايا الطيبة، الذين يقدرون الأشياء بناء
على سهولات الحاضر لا على صعوبات المستقبل) [25]
وأيسر طريق لأصحاب السياسات الانتهازية أن يستخدموا كلمات مثل:
الاستعمار والإمبريالية والوطنية؛ للتغرير بالشعوب، هذه الكلمات التي (تليق جداً
لتشحيم المنحدر حتى يكون الانزلاق عليه نحو السهولة ميسوراً جداً) [26].
2 - ذهان الاستحالة: وقد يحدث العكس، فيرى المسلم أن الأمور مستحيلة
ويقف أمامها عاجزاً، وهي في الحقيقة غير مستحيلة ولكن ربما يضخمها عمداً حتى
لا يتعب نفسه في الحل، أو أنه يشعر بضآلة نفسه وصغر همته فيحكم عليها
¥