فكرة مضادة للانفصال [2]. وقد تتجسد الأفكار بأشخاص ليسوا أهلا لحملها
فتحسب كل أخطائهم وانحرافاتهم على المجتمع الإسلامي أو على الإسلام، وقد
تتجسد بأشخاص يحملونها ولكن إذا ماتوا انتهت هذه الأفكار بموتهم، أو فتر حماس
الأتباع، لقد مارس العالم الإسلامي، دور البطولة في كفاحه ضد الاستعمار عندما
بزغ في سمائه أبطال مثل عبد الكريم الخطابي، وعمر المختار، وعز الدين القسام ..
ولكن مشكلة المسلمين الأساسية لم تحل (لأن من طبيعة هذا الدور أنه لا يلتفت
إلى حل المشاكل التي مهدت للاستعمار وتغلغله داخل البلاد) [3] ولا يعني هذا
إنكار دور هؤلاء الأبطال، أو التقليل من شأنهم، ولكنها العودة إلى الأصل وهو
إنشاء تيار إسلامي قوي يتعلق بالمبدأ ويقوم بالجهد الجماعي، ولذلك جاءت الآية
القرآنية حاسمة في هذا الموضوع، إن الواجب على المسلمين قيادة الدعوة وحمل
الرسالة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم:] ومَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [[آل عمران: 1144].
يركز مالك بن نبي في أكثر كتبه على هذا المرض، ويطالب المسلمين،
والشباب بشكل خاص، بأن يتحول للارتباط بالمنهج لا بشخص معين، لأن هذا
الشخص مثل الرأس الذي يقود عربات القطار، فإذا انحرف انحرف القطار كله،
وهذا الذي يثيره الأستاذ مالك صحيح بشكل عام ولكنه بالغ في تهميش دور
الأشخاص مع أنهم هم الذين يحملون الفكرة ويجسدونها عملياً حتى يقتنع الناس بها،
وكلامه فيه شيء من التجريد والمثالية، وهذا الإسلام، وهو حق صريح، إذا لم
يحمله أشخاص يتمثلونه ويثرونه بين الناس فلا ينتشر إلا قليلاً.
طغيان الأفكار:
إذا كان هناك طغيان في عالم الأشياء وعالم الأشخاص، فقد يصل الأمر إلى
طغيان في عالم الأفكار، فعندما يكون المجتمع في حالة مضطربة، فلا هر بداية
دخول الحضارة، ولا هو خارج تماماً عن الحضارة، في هذه الحالة قد يفقد المتعلم
تكيفه مع الوسط الاجتماعي، أو لا يستطيع أن يقوم بعمل مثمر يرضي ضميره،
عندئذ يلجأ إلى البحث في الأفكار المجردة النظرية التي لا تأخذ طريقها إلى التطبيق،
وبدل أن يتكلم عن معاناة الناس ومشاكلهم والتخطيط لمجتمع أفضل فهو يتكلم عن
الماضي الذي ليس له صلة بالحاضر، أو يفتعل معارك وهمية ليكون هو أحد
أبطالها، وتدفع المطابع كل يوم عشرات الكتب التي لا تمس الواقع المعاش بل هي
هروب مفتعل من الواقع، وقد تطغى الأمور النظرية على مدرس في الجامعة
فيتحدث عن تركيب الأدوية وعن النباتات ويجهد نفسه في وصف بعض النباتات
بدلاً من أن يمد يده من النافذة ويقطف واحدة منها ليقدمها إلى الطلبة حية نابضة،
ولكنه مع الأسف يبحث عنها في الكتاب، فهو كل شئ بالنسبة له [4].
وتد بملغ الخلل في عالم الأفكار، إلى درجة أن يعرقل المبادرات والجهود،
وهو ما يسميه مالك بن نبي (الأفكار الميتة) (فالبديهيات في التاريخ، كثيراً ما قامت
بدور سلبي كعوامل تعطيل مثل بديهية: الأرض مسطحة، فإنها حالت دون
اكتشاف أمريكا قروناً طويلة) [5]، والبوصلة التي ساعدت كولومبس على اكتشاف
أمريكا هي من اختراع المسلمين!، وقد كان من حكم الطب القديم أن الحرارة مثلاً
دواؤها الرطوبة ولا بأس بهذه الحكمة ما لم تكن قيداً يقيد الفكر فلو استسلم الطب
لحكمة كهذه مع صلاحيتها في بعض الظروف لما وجد (باستور) طريقاً لاكتشاف
العلاج النافع لداء (الكلب) مثلاً [6].
و لا شك أن هناك كثيراً من الأفكار خذلت أصحابها لأنها لا تحمل أصولاً
صحيحة، فكم أهدر من الوقت في جدل ومناقشات، وكم سودت من صفحات مبنية
على أحاديث موضوعة أو ضعيفة، وكم عاش المسلمون متأثرين بأفكار الصوفية
التي تدعو إلى البطالة والزهد غير المشروع حيث كان مثلهم الأعلى (المجاذيب).
الحق والواجب:
يميل الفرد بطبيعته إلى نيل حقه، وقد ينفر من القيام بواجبه، والأمة التي
تصاب بمرض (السهولة) وعاشت قروناً من التخلف، فإن من أهون الأشياء عليها
التي لا تكلفها كثيراً هو المطالبة بالحقوق، ونسيان الواجبات، فهي تشبه الكائن
(الأميبى) المتبطل، حتى إذا رأى فريسة هينة ابرز إليها ما يشبه اليد ليقنصها، ثم
¥